عودة المكارثية

الدار البيضاء اليوم  -

عودة المكارثية

بقلم:سوسن الأبطح

حين تصبح «الثقافة هي الجبهة الثالثة في الحرب الأوكرانية»، بعد الجبهتين؛ العسكرية والاقتصادية، كما قررت وزيرة الثقافة البريطانية نادين دوريس، فثمة ما يدعو لتوقع الأسوأ، والشعور بأن كل الحدود قد استبيحت.

الأمر لا يتوقف على طرد فاليري غيرغييف، قائد أساسي في أوركسترا ميونيخ الفيلهارمونية، أو إلغاء حفلات عازف بيانو عبقري مثل ألكسندر مالوفيف في مونتريال، وهو لا يتعدى العشرين عاماً، وله عائلة في أوكرانيا، أعلن جهراً أنه ضد بوتين. وصل العداء إلى مهاجمة من يتحدث الروسية في الشارع، وإلى معاقبة مطعم تشتم منه رائحة روسيا، ونبذ طلاب أقسام الآداب الروسية في الجامعات الأوروبية، والتنمر عليهم في وسائل التواصل. وهؤلاء يأتون من مختلف البلدان، ولا غاية لهم سوى المعرفة. لا داعي للحديث عن مقاطعة القطط ذات الأصل الروسي، ومهاجمة المراكز الثقافية، فهذا كله ضرب من الجنون، يحتاج إلى وقفة شجاعة من المثقفين الأوروبيين العقلاء الذين يتململون، ولا يزالون يتحدثون بصوت خافت، خشية التيار المتطرف الهادر، تغذيه آلة إعلامية تحمّس على الكراهية، أكثر مما تساعد على إدراك متعقل لتبعات ما يتخذ من إجراءات.
كنّا نوجّه اللوم لإعلامنا، بدا أن ثمة ما هو أسوأ بأشواط. فتح جبهة حرب ثقافية، لا يعني فقط مقاطعة موسيقيين وكتب وأفلام وإغلاق أبواب المهرجانات، ففي الضمير البشري أن الثقافة، لغة، ومزاج، ومأكولات، وأزياء، ونمط عيش، مما يبرر ضمناً لأي أوروبي أن يفعل ما يشاء لروسي مقيم، وهؤلاء منتشرون في كل العالم، والفنانون بينهم كثر.
  من هنا خطورة الدعوة البريطانية، التي لا تبتعد عنها فرنسا، وإن حددت وزيرة ثقافتها روزلين باشلو أن بلدها ليس في حرب مباشرة مع روسيا، وإنما المقاطعة هي «للمؤسسات الروسية الرسمية؛ والفنانين الذين اتخذوا موقفاً واضحاً من نظام بوتين». لكن الأمر على الأرض، في مكان آخر. فإن يطلب من كل فنان أو كاتب أن يعلن رأيه في حرب تشارك فيها بلاده كشرط لقبوله، هي سابقة خطيرة، وإهانة قصوى، بصرف النظر عن جنسيته ولونه. الفنانون محاربون في مجالاتهم، وآراؤهم لا أهمية لها، إلا حين يقررون توظيف مواهبهم الفنية للدفاع عن شخص أو نظام والاستبسال في حمايته، ويحوّلون نتاجاتهم إلى سيوف ورماح.
ما عدا ذلك، إذلال عازف، أو شاعر، أو حتى مغنٍّ مهيض، ليس له فيدرالية عالمية تدافع عنه، أو تجمع يحميه، هو استسهال في الانتقام، من أشخاص لم يستشرهم الرئيس الروسي يوماً، وحتماً، فإن إهانتهم لن ترد دبابات الجيش الروسي عن الزحف على كييف.
يُكتب لقلة غربية مثقفة شجاعتها، ويقظة ضميرها، كما فعلت محررة الشؤون الثقافية جان دالي، في «فيننشال تايمز» البريطانية، مشبهة استبعاد الأشخاص عن الوظائف، والتعرض لسبل عيشهم، وإرغامهم على الإعلان عن ولاءاتهم، بما حصل أيام الثورة الثقافية في الصين، وبإجراءات السيناتور جوزيف مكارثي التعسفية في أميركا، ضد من اشتبه بشيوعيتهم في خمسينات القرن الماضي، لتتبين بعد ذلك براءتهم.
قد تكون ألمانيا سياسياً، من أكثر الدول حساسية من موجة العداء الثقافي التي تفشت على أرضها، نظراً لتاريخها النازي، فمن بين ما يوجه لروسي من شتائم هناك «روسي خسيس» أو «خسارة أن هتلر لم ينجح في الوصول إلى غاياته». لهذا يفهم تحذير وزيرة الثقافة الألمانية، كلاوديا روت، من «تطور نزعة مقاطعة الفن والثقافة الروسيين والاشتباه الشامل بحق جميع الفنانين الروس، وكل المواطنين روسيي الأصل». ووضعت روت، وهي من حزب الخضر، يدها على نقطة غاية في الأهمية حين قالت «إن الثقافة الروسية المتنوعة والغنية تعد جزءاً من الثقافة الأوروبية»، أي أن الانقسام داخلي وبيني بعد أن كان الكلام على «إسلاموفوبيا» أو «صينوفوبيا». بل أكثر من ذلك، كان العالم يرى دائماً كييف وفنونها جزءاً من الثقافة الروسية وتراثها. والهوية الأوكرانية غضة، كما أن الفرق بين المطبخين يكاد يكون هامشياً، إلا للخبير بأصوله. وتعلق طالبة ألمانية تدرس الآداب الروسية: «المشكلة أن الأوروبيين لا يعرفون الثقافة الروسية، ولا الأوكرانية».
تصدّعت رؤوسنا، لسنوات طويلة، ونحن نستمع لدعاة «الفن للفن»، واعتبار أنفسهم أكثر تحرراً ممن سواهم. تلك المدرسة التي حمل لواءها الفرنسيان تيوفيل غوتيه والكونت دي ليسل منذ القرن التاسع عشر، ومضى المتحمسون لها يؤججون شعلتها، حتى اجتاحت كل المجالات. ما دُعي بـ«البرناسية» حيث اعتبر الفن غاية في حد ذاته، وليس وسيلة للتعبير عن الذات، ولا عن المجتمع أو الفكر والأخلاق والسياسة، يدفن في لحظة استشاطة. عابت هذه المدرسة على الاشتراكية واقعيتها وفجاجتها، وتسمية الأشياء بأسمائها، واهتمامها بقضايا الناس، لكن ما نراه اليوم، هو دعوة لكل مثقف للعودة إلى عرينه، واللجوء إلى جنسه وعرقه. وأول الغيب عودة نجمة الأوبرا العالمية الروسية، آنا نيتريبكو إلى بلادها لإقامة حفلات موسيقية في مسرح «البولشوي» ومسارح أخرى، بعد أن اضطرت لإلغاء كل حفلاتها في نيويورك وأوروبا، وهو ما يفرح قلوب الروس، بعودة فنانيهم إليهم، لكن الإنسانية تخسر، والإبداع أيضاً.
الجبهة الثقافية، إن بقيت مفتوحة على مصراعيها للمبارزة، ستعيد كل فنان إلى عرينه، وقبيلته، وعرقه وتشعل فيه عصبيته، التي هي أبغض أعداء الفن. معركة فضاؤها إنساني واسع وممتد، لا يقارن بالساحة العسكرية المحدودة، ويخشى إذا ما احتدمت ألا تبقي ولا تذر.  

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عودة المكارثية عودة المكارثية



GMT 19:04 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

الكتابات القديمة في المملكة العربية السعودية

GMT 18:58 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

كيف غيّر «كوفيد» ثقافة العمل؟

GMT 18:52 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

ليس بينها وبين النار إلاّ (ذراع)

GMT 18:21 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة

GMT 13:52 2016 الأحد ,20 آذار/ مارس

كريم طبيعي مزيل لرائحة العرق

GMT 08:47 2016 الإثنين ,11 كانون الثاني / يناير

البامية للوقاية من الأمراض المستعصية والاكتئاب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca