قاسم سليماني... أكثر من اغتيال

الدار البيضاء اليوم  -

قاسم سليماني أكثر من اغتيال

نديم قطيش
نديم قطيش

يتضح كل يوم أن قرار دونالد ترمب تصفية الجنرال قاسم سليماني هو قرار كبير جداً على مستوى المنطقة وتوازناتها.لا يشبهه إلا قرار إدارة جورج دبليو بوش إسقاط نظام صدام حسين الذي فتح حدود العراق أمام المد الإيراني، وقرار اغتيال رفيق الحريري الذي أسقط حائط السد أمام الملالي في عموم المشرق.هو واحد من هؤلاء الأشخاص الذين تتكثف في شخصهم وحركتهم وقراراتهم معانٍ استراتيجية تطال دولاً وشعوباً وأمماً.

فالجنرال سليماني ليس شخصية كبيرة داخل نظام إيران وحسب. ما نكتشفه كل يوم منذ اغتياله قبل سنة، أنه هو شخصياً الدولة العميقة للنظام، ونقطة التوازن فيه، وطاقة الدفع خلفه. ولا يني اغتياله يستنزف هيبة إيران، المقيدة بالعجز عن الرد، والتي يملأ قادتها الهواء نفخاً ساخناً لا يقدم ولا يؤخر في معادلات القوة والأمن.
ما هي رسائل سنوية سليماني الأولى بالوقائع التي انطوت عليها؟

أولاً: كان قاسم سليماني بحيويته الميدانية واستعراضه الإعلامي ورقة التوت التي تغطي وهن الجمهورية الإسلامية. مجرد وجوده كان يغشي على حقيقة أن 30 مليون إيراني يعانون من سوء التغذية، بحسب الإحصاءات الوطنية الإيرانية. وأن التضخم بنسبة 450 في المائة، قد أصاب جزءاً كبيراً من السلع الأساسية، وأن البطالة تعطل 25 في المائة من عموم القوة العاملة، وأن سعر الدولار ارتفع مقابل التومان بما نسبته 162 في المائة خلال العام الأخير فقط!

قاسم سليماني كان شجرة القوة التي تغطي غابة الضعف هذه، ومن خلاله بنَت إيران سمعة عسكرية كبيرة من دون أن تخوض معركة واحدة كدولة، وإذ بطهران لا تجد في كل صواريخها وترسانتها ما يكفي لترميم الهيبة بعد اغتياله.

وها هو جواد ظريف، وزير خارجية «إسقاط أميركا ومحو إسرائيل»، بدل أن يتقدم صفوف التنظير «للرد المقدس»، يحذر واشنطن من الوقوع في فخ إسرائيل التي يتهمها بمحاولة إشعال حرب، من خلال التخطيط لهجمات على القوات الأميركية في العراق، في أوضح تعبير عن مهانة الضعف أمام أميركا مقتدرة ومصممة وصاحبة قرار.

ثانياً: نجح قاسم سليماني نجاحاً فريداً في قيادة وإلهام ما تسميه إيران «الخطوط الأمامية للدفاع عن الجمهورية»، أي الميليشيات المذهبية التي ترعاها طهران ويقودها «الحاج قاسم» بشكل مباشر. بيد أن الاغتيال، وبمثل ما أصاب هيبة إيران، أصاب الروح المعنوية لهذه الميليشيات بفقد قائدها الذي لا يتكرر. بغياب سليماني ولى الأسطورة الذي يراسل سفير واشنطن لدى العراق رايان كروكر ويحذره من مغبة فعل هذا وذاك، وحل مكانه رجل بملامح كاريكاتورية هو إسماعيل قاآني، يلهث خلف تهدئة بعض الفصائل وضبط حماسها.

وإذ يكرر أمير علي حاجي زاده، قائد سلاح الجو في «الحرس الثوري» الإيراني، تهديداته بأن «كل الصواريخ الموجودة في غزة ولبنان هي الخط الأمامي لمواجهة إسرائيل» تبدو تهديداته كلاماً فارغاً، بإزاء أن فصائل الخط الأمامي المركزية كـ«حزب الله - العراق» و«حزب الله - لبنان» و«حركة النجباء»، تسابقت، وبلا دفع من قاآني، للتنصل من مسؤولية الرد وتبعاته.
ثالثاً: في مكان ما يشبه اغتيال قاسم سليماني اغتيال زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن، بمعنى أن الاغتيال حمل إيذاناً بانتهاء مرحلة زمنية بكل مفرداتها. حين قُتل بن لادن في أبوت آباد الباكستانية ربيع عام 2011، كان العالم العربي يودع العقد الذي بدأ مع جريمة 11 سبتمبر (أيلول)، وانتهى مع انطلاق الربيع العربي. قُتل زعيم «القاعدة» في لحظة استئناف كتلة شبابية عربية، حقبة جديدة خارج زمن الحرب على الإرهاب، رغم أنه سيتضح لاحقاً مع بروز «داعش»، أن التطرف الديني ذو جذور أعمق من حياة أو موت تنظيم.
ومثل ذلك يبدو لي مقتل سليماني، إيذاناً بمرحلة جديدة.
1- في العراق يبدو الحرص السياسي والشعبي على تحييد البلاد عن الصراع الأميركي الإيراني غير مسبوق في علنيته، وكثافة الجهود المبذولة في سبيله. فقد حولت السلطات العراقية المنطقة الخضراء في بغداد؛ حيث السفارة الأميركية، إلى ثكنة عسكرية، بالتوازي مع ضرب طوق أمني يزنر العاصمة بحثاً عن مطلقي الصواريخ. أما شعبياً، فلسان حال كتلة كبيرة من العراقيين، كما تفصح مدونات شبيبة الثورة، أنه آن للعراق ألا يسدد فواتير إيران وصراعاتها. هذه ملامح جديدة، حكومية وشعبية، مختلفة عن العراق الذي حكمه قاسم سليماني.

2- كما العراقيون، يترقب اللبنانيون احتمالات الحرب بكثير من التبرم والنقد والرفض، ولا يرون مبرراً أن تكون بلادهم رهينة للدفاع عن هيبة إيران، أو ثمناً يُدفع للانتقام لسليماني. وما الشعبية الجماهيرية الكبيرة في لبنان لعنوان الحياد الذي رفعته الكنيسة المارونية إلا دليل على رغبة لبنانفي الخروج من أسر التورط العملي في الصراع الإيراني الأميركي، بمثل رغبته في الخروج من أسر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والبحث عن سبل للأمان والسلام والاستقرار.

في البلدين، العراق ولبنان، تبدو سردية قاسم سليماني ضعيفة، وغير قادرة إلا على إلهام أقلية مسلحة تحاول فرض خياراتها على الآخرين، بوهج السلاح في لبنان، وسطوة القتل في العراق.
بهذه المعاني كلها، يبدو اغتيال قاسم سليماني، بعد عام، اغتيالاً لمرحلة، وشطباً لخيار في الإقليم كان يحاول تثبيت دعائمه بكل ما أوتي من أدوات وموهبة. وهو من هذه الزاوية اغتيال استراتيجي لشخصية غير عادية، لا يمكن أن تكون الأمور في غيابها بمثل ما كانته في حضورها، مهما كابر المكابرون.

نهاية قاسم سليماني، ومن دون مبالغة، هي بداية شرق أوسط جديد، أو بالحد الأدنى فرصة بداية، تحتاج ألا تتسرع واشنطن لتبديدها عبر مد نظام الجريمة المنظمة بأسباب حياة، لا تأخذ في عين الاعتبار المطالب العلنية للكتلة الشبابية الإيرانية ونظيرتها في الإقليم. كثيرة هي الأشياء التي يريدها هؤلاء، وربما متناقضة في بعضها؛ لكن ما يتفقون عليه أنهم لا يريدون مزيداً من «الحاج قاسم» في مستقبلهم.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قاسم سليماني أكثر من اغتيال قاسم سليماني أكثر من اغتيال



GMT 19:04 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

الكتابات القديمة في المملكة العربية السعودية

GMT 18:58 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

كيف غيّر «كوفيد» ثقافة العمل؟

GMT 18:52 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

ليس بينها وبين النار إلاّ (ذراع)

GMT 18:21 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca