قَصيدَتُها ومَلحَمته

الدار البيضاء اليوم  -

قَصيدَتُها ومَلحَمته

سمير عطاالله
سمير عطاالله

عام 1948 أصدر نزار قباني ديوانه الشعري الأول «قالت لي السمراء»، معلناً نفسه شاعر النساء وفارس العشق. لم يكن الغزل جديداً على الشعر العربي، فهو هناك منذ الجاهلية مروراً بالعصرين الأموي والعباسي. لكن الجديد عند نزار كان تجاوز الجميع بمن فيهم مثاله ونموذجه عمر بن أبي ربيعة. تخطى نزار بصورة خاصة شعراء زمنه في تلك المرحلة، خصوصاً الذين كان يُعجب بهم من أحمد شوقي إلى الأخطل الصغير إلى سعيد عقل. فالسادة المشار إليهم حافظوا على الكثير من الخَفَر وتجنبوا الإباحة، والتزموا إلى حد بعيد قواعد الشعر العذري حيث العاشق ملهوف ومهزوم ومُحاصر. أما نزار فقد استلّ السيف من غمده وراح يحارب طواحين النساء من شوارع مدريد إلى أقبية باريس.

وبعكس المحافظين من ذلك السرب الكبير لم يتردد في التأثر بالشعر الأجنبي، وتحديداً قصائد جاك بريفير ورَنبو وبودلير، وكان خصب القريحة ومكثاراً، يتعاطى مع النظْم وكأنه واجب يومي مثل الوظيفة الحكومية. وعندما حلت نكسة 1967 خلع نزار عن كتفيه رداء عمر بن أبي ربيعة ونزل إلى ساحة الهزيمة مغواراً لا يلوي على شيء. وأثار في تحفته المطولة «دفاتر النكسة» غضب الأنظمة وحماس الشعوب. وما بين النثر والشعر كوّن لنفسه صورة جديدة في الثقافة العربية. ولم يعد مجرد شاعر جامح غزير الموهبة وكثير الإنتاج وكثير العطاء، بل أصبح شاهداً من شهود الضمير العربي والحلم العربي وما أصابهما من خيبة ظلماء.

خلف صورة الشاعر الوسيم المتهتك، كان هناك نزار العاقل المتزن الأديب والزوج شبه المثالي. بعد وفاة زوجته الأولى تعرف إلى «إحدى ملكات بابل»، بلقيس الراوي. ولم يدم الزواج طويلاً، إذ تدخلت المأساة على نحو كارثي لتسرق من الشاعر حبّه وحلمه. كانت بلقيس الراوي تعمل في الملحقية الثقافية بسفارة العراق في بيروت. وفي ديسمبر (كانون الأول) 1981 تعرضت السفارة لهجوم انتحاري سقط فيه 60 قتيلاً كان بينهم بلقيس الراوي قباني.

تحول شاعر المرأة إلى شاعر امرأة واحدة. وسمّى نزار مرثيتّه «قصيدة بلقيس»، باعتبارها منفصلة عن كل ما كتبَ وما سوف يكتُب. وقال لها: «ها نحن نبحث بين أكوام الضحايا... عن نجمة سقطت... وعن جسد تناثر كالمرايا...».

لكن الشاعر المهزوم حتى الموت، لا يلبث أن يتذكر عنفوانه وعنفوان بلقيس: «وأقول... إن عفافنا عُهْرٌ... وتقوانا قذارة...».. تُرى هل كتب نزار قبل «قصيدة بلقيس»؟ هل كتب بعد «قصيدة بلقيس»؟ كلما عدت إلى ذلك الساحر الذي حوّل الشعر العربي إلى نزهة في الحدائق بين الزهور والأشجار، أيقنتُ أن «قصيدة بلقيس» هي ملحمته الأولى والأخيرة. فلما شق النرجسي التيّاه، الذي كان يكتفي بِرش العطر على القوافي، يقف هنا إنساناً يائساً وحزيناً أمام حكاية عمره وأمّته. لم تعد النكسة في سيناء، بل دخلت بيته وخطفت منه أجمل ملكات بابل: «ها نحن... يا بلقيس... ندخل مرة أخرى... لِعصر الجاهلية... ها نحن ندخل في التوحش... والتخلف... والبشاعة... والوضاعة... ندخل مرة أخرى عصور البربرية».

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قَصيدَتُها ومَلحَمته قَصيدَتُها ومَلحَمته



GMT 19:04 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

الكتابات القديمة في المملكة العربية السعودية

GMT 18:58 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

كيف غيّر «كوفيد» ثقافة العمل؟

GMT 18:52 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

ليس بينها وبين النار إلاّ (ذراع)

GMT 18:21 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى

GMT 02:43 2017 الأحد ,17 كانون الأول / ديسمبر

حسن الرداد في ضيافة "أبلة فاهيتا" في "الدوبلكس"

GMT 01:14 2014 الأربعاء ,25 حزيران / يونيو

أهمية الكمون واستخداماته وفوائده الصحية

GMT 06:10 2018 الثلاثاء ,02 كانون الثاني / يناير

"ذا فويس كيدز" يواصل مشوار النجاح واستقطاب أكبر نسبة مشاهدة

GMT 11:57 2016 الأربعاء ,12 تشرين الأول / أكتوبر

المراهقة السياسية المتأخرة‎

GMT 11:43 2016 الأربعاء ,12 تشرين الأول / أكتوبر

2262 طن خضار وفواكة ترد للسوق المركزي في الأردن

GMT 08:55 2018 الخميس ,08 شباط / فبراير

قائمة بأفخم وأفضل الفنادق في الشرق الأوسط

GMT 04:12 2018 الجمعة ,26 كانون الثاني / يناير

سهام جلا تعود بقوة إلى الوسط الفني خلال مجموعة أعمال

GMT 10:25 2018 الأحد ,21 كانون الثاني / يناير

أطعمة خالية من السعرات الحرارية وتساعد في حرق الدهون

GMT 05:32 2018 الجمعة ,12 كانون الثاني / يناير

قطر تُقرر مقاطعة نجوم " روتانا " بسبب الأزمة الخليجية

GMT 13:39 2017 الثلاثاء ,19 كانون الأول / ديسمبر

سعر الريال السعودي مقابل درهم إماراتي الثلاثاء

GMT 09:39 2017 الأربعاء ,06 كانون الأول / ديسمبر

إليسا تشارك محمد حماقي سهرة عشاء في القاهرة
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca