القدس: فضاءات لا تنتهي

الدار البيضاء اليوم  -

القدس فضاءات لا تنتهي

تحسين يقين
بقلم : تحسين يقين

اتجهت غرباً، تجولت ورحت أقرأ الحجارة ثانية وثالثة، حارة النصارى، وحارة الأرمن، رحت أتجول في ذكريات طفولتي، كيف كنا نسير على السور من فوق؟ هل كنا طيوراً؟
أسير وأنا ألوم نفسي كثيراً، ثمة أماكن أخرى لم تأخذ حقها لا من الكتابة ولا من القراءة!
لماذا، كلما زرت القدس، أحاول أن أحتويها بكل مشاعري وجوارحي؟
أحتار أي الدروب أسير؟ وبأيها أزهد؟
وأتساءل، وأنا الظمآن للقدس: هل من مكان، هنا، داخل البلدة القديمة، وخارجها، لم أزره، من قبل؟ فأكتشف أن هناك المزيد من الأماكن التي عليّ أن أزورها، وأكتب عنها.
أحتار بين الأماكن التي آلفها، والتي لي فيها ذكريات طفولة وشباب، وتلك التي لم أعرفها، أو إنني مررت، مسرعاً، في يوم حار، أو ماطر، أو يوم ريح.
سأسعد، في الطريق، إليها، كأم، أو أب، أو حبيبة، أو ابن.. سأتأمل المباني، على جانبي الطريق، ثمة محلات جديدة في بيت حنينا، وثمة طوابق ما بين الثاني والرابع، أو أكثر قليلاً، أكيد «نشّفت» ما تسمى «بلدية القدس» ريق أصحاب العمارات: فبلدية الاحتلال مشغولة بالمقدسيين، تمارس مخططات تهجير، أو تقزيم لطموحات الناس بأن يكون لهم فضاء عادي يناسبهم، في البيوت والشوارع والمباني والمؤسسات والحدائق والملاعب والمسارح.

لم أدخل بستان قبر السيد المسيح، الذي يقع مقابل الكراج الجديد: ذلك الكراج الذي ظل يكتسب وصف الجديد، رغم مرور سنوات على إقامته.
أتأمل العمران، خارج البلدة القديمة، فأحاول التعرف إلى الأسلوب الكولينيالي في البناء، والذي ارتبط ببناء القدس، خارج السور، منذ أواخر القرن التاسع عشر. فيبدو أن هذا الأسلوب، الذي انتشر في بلاد الشام، ومصر، وشمال أفريقيا، قد ظهر، هنا، في القدس، وفلسطين، بشكل عام، حتى قبل الاحتلال البريطاني لبلادنا.
أي هو نوع من التأثر الثقافي المعماري، الذي يبدو، أيضاً، أنه لاقى استحساناً، مع تغير حياة البشر، بالاتصال مع الغرب، والذي صار يناسب الأسر المدينية، بوصفه تقليداً للوافد والخواجا، ولم يدُرْ، ببال المعماريين، أن باحثين ومهندسين، من أحفادهم، سيأتون لتقويم هذا البناء ومحاكمته؟
أتأمل المدرسة الألمانية «كلية شميدت» الكبيرة، والتي، لا شك، كان بناؤها، قبل قرن، شيئاً مميزاً لأهل القدس، فأحس أنني في بلد أوروبي: كلا المربعين تم بناؤهما قبل حوالى القرن، وهي تتميز، جميعاً، بشبابيك واسعة وسلالم واسعة رحبة، حتى التي بنيت بعدها، في الثلاثينيات والأربعينيات (من القرن الماضي) ظلت تحتفظ بهذا الاتساع.
حلو ذلك البناء، لكنه لا يعبّر عن روح المدينة، بل أشعر أنه يسطو عليها.
سأتناول طعاماً شعبياً، واقفاً في باب المصرارة، وسأحاول قراءة النقش، على باب العمارة التي على الزاوية، والتي افتتح فيها محل كنافة، مقترباً من مكان بيع الجرائد والمجلات، حيث اعتدت، طفلاً، شراء جريدتيْ «الشعب»، و»الفجر»، بتشجيع من أخي نصّار، الذي كان يرى، في الجريدتين، مجالاً لبث الروح الوطنية.
في طفولتي، في منتصف السبعينيات وأوائل الثمانينيات، كنت أقرأ جريدة الشعب، وأحب، في كل مرة، قراءة بيت شعر: «إذا الشعب، يوماً، أراد الحياة ـ فلا بدّ أن يستجيب القدر»، من قصيدة «إرادة الحياة»، للشاعر التونسي، أبي القاسم الشابي، ثم لأتذكر أنني تعلمتها طالباً، وعلّمتها معلماً، للغة العربية. لكن ظل، لقراءة هذا البيت، وقع خاص عليّ. إذن، فقد بدأت بشراء الجريدة، مبكراً: جيد هذا الوعي.
كنت، وقتها، أعجب من أطفال القدس.. من البائعين المتجولين، أدهش لجرأتهم، وشخصياتهم الاجتماعية، وحضورهم وثقتهم في أنفسهم، لكنني كنت أقرأ مسحة من البؤس في وجوههم. كنت أشتري منهم، بما يمكنني: فشراء الطفل من طفل مثله له شعور مختلف. وعندما كبرت اعتدت الشراء من الأطفال، وآثرت ذلك، ربما، استمراراً لسلوك الطفل، فيّ.
ليس هناك ما أقوله هنا، لكن لي ما أتذكره أو أتأمله.
القدس كما كانت، يوماً ـ كيف كانت؟ هل من صخر، وحجارة قديمة تدل عليها؟ نعم، هناك، في مقطع السور القريب من بصري، مكعبات حجارة كبيرة مبنية على الصخر، فالصخر هو جزء من السور.. هو الأساس.
حجر، على صخر، حجر كبير مصفوف، مع حجارة مكعبة.. واكتمل السور، وصار مدينة، تاريخاً، تاريخاً للحرب، وتاريخاً للسلم، وتاريخاً للمعمار.
هنا وددت، في التاسعة عشرة، أن تبدأ قصة حب، وأن تتجاوز النفس إلى الآخر. كنت أتمنى أن أقول: «كنا، معاً، هنا». لكن ذلك لم يبدأ، وظل حبراً على ورق، ثم يسافر الشاب، لينسج قصص حب، هناك. كان يتمنى لو أتيحت له فرصة الحب، هنا.
كنت أحب القدس، كثيراً: أولاً، بوصفي قروياً يحب المدينة، وثانياً، بوصفي ولداً فلسطينياً يرى في المدينة مركزاً للعمل الوطني والثقافي، وثالثاً، بوصفي متديناً تقليدياً يقدس المدينة. وكنت أحبها: لأنه منها، دائماً، كان يأتي الفرح، على شكل مُلَبَّس، وحامض ـ حلو، وكعك، وقصص رواها الأطفال الذين شاهدوا أفلام بروسلي، وكنج كونج، وسعاد حسني، وعبد الحليم حافظ، وفي ما بعد، أفلام البورنو.
أفلام الكاراتيه كانت أثيرة، لدى طلاب الإعدادي، أما الأخرى فهي لطلاب الثانوية.
ترى، لو نمتْ، هنا، قصة حب، فكيف يمكن أن تكون؟
كنت، وقتها، سأريها المدينة، من منظوري الخاص، وكنت سأراها من منظورها، وكنت سأشتري لها كعكاً وملبناً وذرة، وأقرأ عليها كلماتي الأولى، التي كتبتها، عن القدس، وعنها، وكنت سأتسلق السور، معها، لنسير، معاً، نطوف حول البلدة القديمة؛ لنعيد قراءة التاريخ وكتابته.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

القدس فضاءات لا تنتهي القدس فضاءات لا تنتهي



GMT 19:04 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

الكتابات القديمة في المملكة العربية السعودية

GMT 18:58 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

كيف غيّر «كوفيد» ثقافة العمل؟

GMT 18:52 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

ليس بينها وبين النار إلاّ (ذراع)

GMT 18:21 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى

GMT 11:50 2021 الثلاثاء ,26 تشرين الأول / أكتوبر

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 18:22 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر مع تنافر بين مركور وأورانوس

GMT 08:12 2017 الإثنين ,11 كانون الأول / ديسمبر

أويلرز يفوز على مونتريال في دوري هوكي الجليد

GMT 05:03 2017 الأربعاء ,27 أيلول / سبتمبر

شخص ملثم أضرم النار داخل مسجد فجر الاربعاء

GMT 17:08 2018 الإثنين ,08 تشرين الأول / أكتوبر

"المغرب اليوم" يكشف عن أجر "جون سينا" في" التجربة المكسيكية"

GMT 06:44 2018 الأربعاء ,26 أيلول / سبتمبر

"كالابريا" أحد كنوز إيطاليا الخفية عن أعين السائحين

GMT 01:14 2018 الإثنين ,03 أيلول / سبتمبر

مرتجي يؤكد استعداد الأهلي إلى "حدث تاريخي"

GMT 06:21 2018 الإثنين ,02 تموز / يوليو

أحلام تهتف باسم الملك وتُغني للراية الحمراء

GMT 20:38 2018 الأربعاء ,06 حزيران / يونيو

"شعبي نايت لايف" حفلة ضخمة للطرب في عيد الفطر
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca