فيروس كورونا ولعبة الموت والحياة

الدار البيضاء اليوم  -

فيروس كورونا ولعبة الموت والحياة

سما حسن
بقلم : سما حسن

 ما كل هذه الفوضى وهذا الخوف من فيروس صغير، والحقيقة أنه ليس صغيراً، وقد أصاب كل العالم بالذعر، لا يمكن أن تتخيل أن الإنسان يحب البقاء في هذه الحياة، وكلما رأينا مدى ذعره من الموت لتصورنا انه يعيش في نعيم مقيم وان حياته مفتحة الأبواب على السعادة، ومشرعة النوافذ على الرخاء، ولا مشاكل ولا آلام حوله ولا شيء ينغص صفو يومه سوى هذا الفيروس المستجد اللعين.في سبعينات القرن الماضي وضعت أمي مولوداً جميلاً، وقد كان جميلاً لدرجة لا توصف، حتى ان أبي رحمه الله لم يجد له وصفاً أجمل من وصفه بالسلفوح، «ما هو السلفوح» لا أدري، وربما كان نوعاً من السمك الأبيض العريض اللامع الجلد، ولكن ابي كان يصفه كلما أتينا على ذكره بأنه كان مثل السلفوح، ولكن هذا الطفل مات وهو ابن ستة أشهر بسبب نزلة معوية حادة، وقديماً لم تكن النزلة المعوية تعالج إلا بمغلي المرمية، ولم تدخر جدتي لأمي رحمها الله جهداً في سقيه المرمية على مدار الساعة، وكانت تنقعه بالماء البارد لتخفض حرارته، ولكن الإسهال والقيء لم يتوقفا حتى اصبح السلفوح مثل ورقة خريف صفراء ذابلة تتطاير في مهب الريح.

مات الرضيع ابن ستة أشهر وحزنت أُمي وحزن أبي، وكان أبي رجلاً جلداً من النادر ان يظهر حزنه، ولكنه بكى ورأيت دموعه لأول مرة، وجاء جدي لأمي مسرعاً إلى البيت ليشد من أزر أبي، وهكذا رحل الصغير الذي كان يملأ البيت صراخاً، وكان جميلاً لدرجة لا توصف.قبل وفاة ابي بأيام قليلة جئنا على ذكره، فتذكره ابي بنفس الوصف وتحشرج صوته واحتقن وجهه بحزن قديم ثم سالت دمعته، وتحيرت، هل لا يزال أبي يذكره ويحزن عليه بعد كل هذا العمر، لو عاش هذا الطفل لكان في الأربعينات من عمره وكنا وقتها في العام 2018، حتى لحق به أبي ولم نعد نذكره.

هل الفقد يكون موجعاً حين يكون مفرداً، ويهون حين يكون جماعياً، تساءلت بيني وبين نفسي وأنا أتذكر الأفلام العربية القديمة التي استعرضت الأوبئة التي حلت بمصر مثلاً، وكذلك بعض المسلسلات وأذكر منها مسلسل «الأيام» الذي يروي قصة حياة طه حسين وكيف مات شقيقه، وكان طبيباً حديث التخرج بسبب وباء الكوليرا الذي اجتاح الريف المصري في الثلث الأول من القرن العشرين، وتخيلت الموت الجماعي الذي كان يجتاح الريف، وكانت الجنائز تخرج جماعات بصلاة واحدة، وكيف أن الحزن قد غلف بيت عائلة طه حسين حين توفي أحد أفراد العائلة، وكلما تحدث الابن الراحل عن الكوليرا وطرق التصدي لها كان الجميع يرونها بعيدة، حتى حلت بأحدهم فرأوها أقرب مما تخيلوا.

استعاذت جدتي لأبي رحمها الله من الدفن في مقبرة جماعية ويطلق عليها في بلادنا «الفسقية»، وأوصت أن تدفن في قبر مفرد وكأن جسدها سيبقى على هيئته وتخشى أن تنكشف حرمته، وطالما سمعت جدي يؤكد وعده لها مرة مازحاً ومرات على سبيل الجد حين اشتد بها المرض، ودفنت في قبر مفرد كما أوصت.تخيلت كم تكون المقابر الجماعية مؤلمة لأشخاص كانوا أعزاء ومقربين، كيف يكون الموت مثل قطار لا يتوقف في محطة، وكيف يحصد الرؤوس بضربة واحدة، حتى يصبح الحديث عن الموت مثل الحديث عن آخر كوب شاي احتساه احدهم في مقهى وتركه وغادر.

الموت يصبح هيناً في وقت الأوبئة، والأعزاء والأحبة يصبحون رقماً، هل هذه هي الحياة؟ هل هي هينة لهذه الدرجة بحيث يتحول أحبتنا في بعض الأوقات إلى أرقام؟ وهل كل هذه التكنولوجيا تقف عاجزة أمام فيروس مستجد ينبئ بمقابر جماعية وجنائز مشتركة، وحملات تطهير لا تتوقف حتى تذكرنا برش الأشجار لوقايتها من الحشرات والأمراض؟ أذكر تلك النقاط البيضاء التي تترك على أوراق الأشجار وتظل لمدة طويلة حتى حين تؤتي ثمارها أكلها، هل تألمت الشجرة وهي تصاب برذاذ الدواء رغم أن الألم قد جاء بهذه الثمار؟

إن الحياة يا رفاق كذبة، لو لم تكن كذبة لما انتهت سريعاً أمام فيروس مستجد، ولو لم تكن كذبة جميلة لما أصابنا كل هذا الهلع ولما فرغت الصيدليات من الكمامات والمطهرات، وفرغت محال السوبرماركت والمولات من أوراق التواليت، لست أدري لماذا فرغت في استراليا مثلاً أوراق التواليت من محال السوبرماركت؟ ما هي العلاقة بين الفيروس المستجد وأدوات التنظيف في المرحاض، لو عرفت العلاقة ربما كنت سأفهم قليلاً لعبة الموت والحياة....

قـــد يهمــــــــك أيضــــــاُ : 

المدرسة.. وأيام الشتاء الجميلة

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فيروس كورونا ولعبة الموت والحياة فيروس كورونا ولعبة الموت والحياة



GMT 19:04 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

الكتابات القديمة في المملكة العربية السعودية

GMT 18:58 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

كيف غيّر «كوفيد» ثقافة العمل؟

GMT 18:52 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

ليس بينها وبين النار إلاّ (ذراع)

GMT 18:21 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى

GMT 09:43 2018 السبت ,20 كانون الثاني / يناير

أناقة خبير الرياضيات فيلاني تتغلّب على أزياء ماكرون

GMT 02:38 2017 الخميس ,05 تشرين الأول / أكتوبر

أحمد عمور يُعلن خفض ديون "أليانس" للتطوير العقاري

GMT 07:01 2018 الخميس ,26 إبريل / نيسان

تعرفي على اتيكيت التقديم وفنونه المختلفة

GMT 09:22 2017 السبت ,28 كانون الثاني / يناير

تعديلات مبهرة في سيارة لامبورغيني "Aventador S"

GMT 07:43 2015 الإثنين ,23 آذار/ مارس

أقراص الكوسا والجبن

GMT 00:05 2015 الإثنين ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

مصر تضيء أهرامات الجيزة بالعلمين الفرنسي والروسي

GMT 04:31 2017 الجمعة ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

قلة تناول "أوميغا 3" يؤدي إلى ضعف السلوك الاجتماعي

GMT 23:23 2019 السبت ,12 كانون الثاني / يناير

وفاة سائح فرنسي اصطدمت دراجته بحافلة في مراكش

GMT 05:57 2018 الأربعاء ,20 حزيران / يونيو

اندلاع حريق بسوق المتلاشيات في أولاد تيمة

GMT 04:57 2018 الأربعاء ,31 كانون الثاني / يناير

الإعلامية إيمان نبيل تبدي سعادتها بشباب مصر وفكرهم الواعي

GMT 13:48 2018 الخميس ,04 كانون الثاني / يناير

دار "ماكس مارا" تُركّز على صيحة المعاطف الواسعة والضخمة

GMT 21:14 2017 الإثنين ,25 كانون الأول / ديسمبر

دانا فارس تطلق أغنية "تسلم" في "الكريسماس"
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca