صفقة ترامب والتحولات الدولية

الدار البيضاء اليوم  -

صفقة ترامب والتحولات الدولية

عاطف أبو سيف
بقلم : عاطف أبو سيف

مع كل التحولات الكبيرة التي أشرنا إليها في المقالات السابقة في بنية المجتمع الدولي وما عنته من تحولات في التوجهات، فإن صعود ترامب وما يمارسه من سياسات بشكل عام يبدو رغم غرابته جزءاً من منظومة أشمل لا يمكن التقليل منها. ربما عبر التاريخ كان الفرد القائد مركباً فاعلاً في إنتاج السياسة، خاصة حين يتعلق الأمر بما صنفه «فيبر» بالكاريزمية ضمن تصنيفاته للوصول للسلطة، لكن حتى القائد الفرد لم يكن يوماً - ربما على البعض أن يستثني الأنبياء وبعض أساطير التاريخ - قادراً على إحداث تحولات كبيرة في العالم. بشكل عام، إن مثل هذه الشخصيات في التاريخ الحديث والمعاصر لم تعد موجودة، بل إن المؤسسة باتت أكثر فعالية في إنتاج التغيرات الكبرى في السياسات الدولية. وبقدر ما يمارس الأفراد أدواراً مهمة في الضغط تجاه تمرير أفكارهم وتصوراتهم حول سياسات محددة، بقدر ما يجب أن يعمل عليه من تحول وتكيف في المؤسسة الأكبر حتى ينجح التغيير. وعادة فإن النظم الكبرى صاحبة التأثير في السياسات الدولية يمتد نفوذها إلى عواصم دول أخرى من أجل تنظيم حالة وفاق يمكن عبرها خلق التحول المطلوب في المواقف التي تحتاج إجماعاً من نوع ما. وبعبارة أخرى، فإن الأفراد المؤثرين ليسوا مؤثرين بسبب قدرات خارقة، لأن مفهوم القوة الجسدية الخارقة لم يعد قائماً في الوعي العام، بل بمقدرتهم على تحويل تطلعاتهم إلى مواقف تتبناها المؤسسة.

وهذا بيت القصيد في هذه المقالة؛ إذ إن الخشية من أن يسعى ترامب إلى تحويل تصوراته المصنفة «صفقة»، وفق كلماته، إلى مقترحات دولية يجب على أطراف الصراع أن يقبلوا بها. لقد كان واضحاً من البداية رغبة نتنياهو في شطب كل القرارات الأممية السابقة المتعلقة بالقضية الفلسطينية واستبدالها بقرار يعاد عبره صياغة «الصفقة»، وبالتالي لا يعود الأمر مقترحاً خاصاً بترامب بل يصبح قراراً أممياً ملزماً للجميع. والخطورة في ذلك ليست في ما إذا كان هذا سيجبر الفلسطينيين على التوقيع بعد القبول أم لا، لأن أي قوة على وجه الأرض لا تستطيع أن تجبر طفلاً فلسطينياً أن يقبل بهذا الظلم، لكن في أن يصبح ما يطرحه ترامب السقف الأعلى الذي يمكن للمجتمع الدولي أن يتخيله حلاً للصراع، وبالتالي يكون على الفلسطينيين، حتى في حال رفضوا ذلك، أن يتكيفوا مع التوجهات الدولية. ضمن أشياء كثيرة، فإن هذا سيعني أن تلقي التمويل الخارجي سيتطلب أن يجد الفلسطينيون طريقة ما حتى لا تتعارض تطلعاتهم مع هذه «الشرعية الدولية» الجديدة. فلا أحد في الكون يدفع أموالاً بلا مقابل، وكما درجت الحكمة في سياسات التمويل «لا دعوة على العشاء دون سبب»، والمجتمع الدولي الغني الذي هو مجتمع المانحين، الذين في جلهم من دول أوروبا والغرب عموماً، لن يدفعوا فلساً يمكن أن يستخدم لمناقضة توجهات «الشرعية الدولية» الجديدة التي يسعى وراءها ترامب.

قبل وصول ترامب للحكم، تمحورت توجهات إدارات الجمهوريين إلى إعادة صياغة دور المنظمات الدولية بما يخدم أكثر سياساتهم الجديدة، تحديداً السياسة التي أشير إليها في الأدبيات بـ»المحافظين الجدد». كانت الفكرة أن القوة يجب أن تعكس نفسها بشكل حقيقي لا ضمن نوازع «قيمية». القيم التي تعطي كل دولة الحق بالوجود في المنظمة الدولية، بحيث تتساوي الدول في نهاية المطاف بالجمعية العامة. وفيما كانت بعض الدول الصاعدة تسعي لتغيرات أكثر ديمقراطية في المنظمات الدولية، مثل توسيع عدد الدول صاحبة حق النقض أو إلغاؤه، كانت واشنطن تسعي إلى تهميش دور المنظمة الدولية ووضع وجودها كله موضع تساؤل. لكن من يتابع السياسة الأميركية يمكن له أن يضع مثل هذه التوجهات ذاتها موضع مساءلة أخرى؛ إذ إن واشنطن دأبت على استخدام المنظمة الدولية وقت الحاجة من أجل تمرير توجهاتها الفردية وجعلها حكمة وموقفاً دولياً جمعياً. كان هذا واضحاً في المناطق التي كان على واشنطن أن تتدخل فيها حماية لمصالحها، مثل حربي الخليج الأولى والثانية والحرب على أفغانستان وتلك التي خاضتها ضد نظام مليسوفتش وكل تلك الحروب تم خوضها باسم المجتمع الدولي وبتفويض منه. بعبارة أخرى، إن واشنطن تريد الدور الوظيفي للمنظمة الدولي دون الحاجة لحقيقة وجودها. وعليه فإن المهام المناطة بها هي تلك المهام التي يجب ألا تتعارض مع توجهات الإدارة الجديدة.

بالنسبة لترامب، ومع ما يمكن أن يوصف به من رعونة، فإن المنظمة الدولية أيضاً ليست مهمة بقدر تكيفها مع توجهات ومصالح واشنطن. المصالح التي يتم التعبير عنها ضمن نسق السوق سواء في فتح جبهات عداء جديدة أو التصالح مع بعض أعداء الأمس. الصفقة التي تعكس وعي ترامب التجاري تحكم نسق التفكير والممارسة. وعليه فإن أخطر ما في توجهات ترامب أنه يريد أن تتحول هذه المقترحات التي لا تعطي شيئاً للفلسطينيين إلى قرار أممي. وهو لن ينجح في ذلك لاعتبارات كثيرة لها علاقة بالشركاء في التنظيم الدولي. ولكن، وهنا ربما يجب النظر بإمعان، قد ينجح في جعلها المقترح الوحيد المتوفر على الطاولة. جوهر «صفقة القرن» قائم على نسف «براديم» الدولتين وفق حدود الرابع من حزيران وليس نسف البراديم ذاته. من هنا فإن ترامب سيسعى من أجل الإقناع التدريجي للاعبين الآخرين بأن ما يقترحه هو ما يمكن أن يتم، وأن ما سواه لن يتحقق. وعليه فإن الخوف هو من  نجاحه في ذلك، وأن يصير مع الوقت ما يطرحه أكثر ما يمكن أن يوافق عليه المجتمع الدولي.أيضاً هذا ليس سهلاً، لكن العمل الدؤوب من أجل منعه ضرورة حتى يتم منع المزيد من الانهيارات في المواقف الدولية وحماية مصالح الشعب الفلسطيني وحقوقه.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

صفقة ترامب والتحولات الدولية صفقة ترامب والتحولات الدولية



GMT 19:04 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

الكتابات القديمة في المملكة العربية السعودية

GMT 18:58 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

كيف غيّر «كوفيد» ثقافة العمل؟

GMT 18:52 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

ليس بينها وبين النار إلاّ (ذراع)

GMT 18:21 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى

GMT 11:50 2021 الثلاثاء ,26 تشرين الأول / أكتوبر

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 18:22 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر مع تنافر بين مركور وأورانوس

GMT 08:12 2017 الإثنين ,11 كانون الأول / ديسمبر

أويلرز يفوز على مونتريال في دوري هوكي الجليد

GMT 05:03 2017 الأربعاء ,27 أيلول / سبتمبر

شخص ملثم أضرم النار داخل مسجد فجر الاربعاء

GMT 17:08 2018 الإثنين ,08 تشرين الأول / أكتوبر

"المغرب اليوم" يكشف عن أجر "جون سينا" في" التجربة المكسيكية"

GMT 06:44 2018 الأربعاء ,26 أيلول / سبتمبر

"كالابريا" أحد كنوز إيطاليا الخفية عن أعين السائحين

GMT 01:14 2018 الإثنين ,03 أيلول / سبتمبر

مرتجي يؤكد استعداد الأهلي إلى "حدث تاريخي"

GMT 06:21 2018 الإثنين ,02 تموز / يوليو

أحلام تهتف باسم الملك وتُغني للراية الحمراء

GMT 20:38 2018 الأربعاء ,06 حزيران / يونيو

"شعبي نايت لايف" حفلة ضخمة للطرب في عيد الفطر
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca