تأملات في عالم مُتغيِّر..!!

الدار البيضاء اليوم  -

تأملات في عالم مُتغيِّر

حسن خضر
بقلم : حسن خضر

ما معنى المراحل، وما المقصود، بالضبط، عندما نتكلّم عن الانتقال من مرحلة تاريخية إلى أُخرى؟ لدى علماء الآثار، والاقتصاد، والاجتماع، والتاريخ، والسياسة، تأويلات مختلفة، وأدوات للقياس. ولكن أين الفكر، وتاريخ الأفكار، والفلسفة، من هذا كله؟ وما التأويلات المُحتملة، والأدوات المناسبة، للقياس؟يتمثل مدخل مُحتمل لمقاربة أسئلة كهذه في الاعتراف بأن ما يُميّز مرحلة عن غيرها يتجلى في خروج أفكار، وتصوّرات، واستيهامات، سادت في مرحلة سبقت، من المتن، واحتلال غيرها للمتن نفسه. هذا لا يحدث بالأبيض والأسود، ولا بطريقة حاسمة، بل يُراوح فترة طويلة، ومؤلمة، في حالة اختزلتها عبارة غرامشي في "القديم الذي لم يمض تماماً، والجديد الذي لم يُولد بعد".

وهذا ما قد يحدث، أيضاً، وغالباً، مع دخول التاريخ، بعبارة شائعة لصاحبنا الماركسي العتيق ريجيس دوبريه، للفصل الجديد مُقنّعاً بقناع الفصل السابق، فيختلط الأمر على الناس إذ يبدو وكأن شيئاً لم يتغيّر، وأن "الأمر" على حاله. وفي اختلاط "الأمر" ما ينفتح على فوضى، وأخطاء فادحة، وآلام وأوهام لا تحصى ولا تُعد.ومع غرامشي، ودوبريه، في الذهن، نكون قد تسلحنا بأدوات، وثيقة الصلة، إذا كنّا في معرض الكلام عن "صفقة ترامب" بوصفها سياسة إمبراطورية، ومشهداً بصرياً في زمن هيمنة الصورة، وهندسة للجغرافيا، والمصائر، وعملية قيصرية، في زمن ما بعد الحقيقة، وإذا كان هذا كله في معرض الكلام عن نتيجة من نوع: أن "الصفقة" تُمثّل لحظة فاصلة بين مرحلتين في تاريخ الصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي، والإقليم، والعالم.

بمعنى أكثر مباشرة: تتشكّل، الآن، من كل ما ذكرنا، مرحلة تاريخية جديدة، تنزاح مفاهيم وتحل مفاهيم. والسؤال المُلّح: ما هي ملامحها الرئيسة، وما هي الأفكار، والتصوّرات، والاستيهامات، التي تلوح في الأفق، وتتشكّل في صيغة مفاهيم ستحكم سلوك ومصائر الفاعلين والضحايا على حد سواء؟ولنبدأ بالعالم مع ملاحظة أن ثمة علاقة تفاعل متبادلة بين ما يحدث فيه، وما يحدث في الإقليم، وأن وجود أكثر من جواب، في هذا الشأن، وثيق الصلة بتعددية المقاربات، وتعددية مراكز التأثير في العالم. ولكن، نبقى على أرض أكثر صلابة إذا فكّرنا بأن ما يحدث للإمبراطورية الأميركية، وفيها، يؤثر على العالم، وأن "الصفقة" ظاهرة أميركية. وصفة "الأميركية"، هنا، لا تقتصر على كون أميركا بلد المنشأ، بل تشمل فكرة إمبراطورية في أزمة، ومآلات مجتمع الفرجة (بلغة غي ديبور)، ونهاية أوهام "نهاية التاريخ"، والفوز النهائي للرأسمالية (بلغة فوكوياما)، بعد انهيار جدار برلين.

وما من مدخل أكثر إلحاحاً، وتمثيلية، لمقاربة ما يحدث للإمبراطورية الأميركية (بما أوردنا من دلالات "الأميركية")، وفيها، من ترامب الشخص، والظاهرة، بقدر ما في الاثنين مما يُفسّر معنى إمبراطورية في أزمة، وما يوفّر مشهداً لا تعوزه المأساوية لوصول مجتمع الفرجة إلى مرحلة لا نعرف إن كانت أعلى مراحله (أو مراحل الرأسمالية، إن شئت، ولكن في صيغة كوميديا سوداء ربما لم تكن لتخطر على بال طيّب الذكر لينين في كلامه عن الإمبريالية بوصفها أعلى مراحل الرأسمالية) أو كان بعدها ما هو أكثر بشاعة ومأساوية منها.

ترامب، الشخص، في نظر أغلب معارضيه، وحتى بعض مؤيديه، شبه متعلّم، قليل الأدب والمعرفة، مريض بنفسه (يعتقد أنه "عبقري مُتّزن" كما يقول) بلا ضمير ولا أخلاق، كاذب، ومخادع، عنصري، وعدواني. مهنته تجارة العقارات، ومراكمة الثروة. ولا حاجة للتذكير بالفضائح، وإجراءات العزل، ولا بعشرات الكتب التي نشرها أشخاص عملوا معه، أو عرفوه، عن قرب، وقالوا إن التعامل معه يشبه التعامل مع طفل لا يمكن لأحد التنبؤ بردود أفعاله، كما كتبت مساعدة سابقة نشرت كتاباً عنه بعنوان "المعتوه".

بيد أن هذه الأشياء كلها لا تبدو سلبية تماماً في مجتمع الفرجة، الذي انفصلت فيه السياسة عن القيم، وتسيّد فيه، وعليه، مبدأ الربح. ومع انفصال كهذا نتقدّم خطوة إضافية في تشخيص ترامب الظاهرة، أي ما يتجاوز الشخص نفسه، ليجعل منه تمثيلاً ووسيلة إيضاح لأفكار وتصوّرات واستيهامات طاغية الحضور في مجتمع بعينه.وبهذا المعنى، تتجلى الظاهرة الترامبية كتتويج لمشروع بدأ منذ ستينيات القرن الماضي، وزرع بذوره أصحاب مليارات يعتنقون أيديولوجيا رجعية ومُحافظة أرادوا إنقاذ أميركا من سطوة ومركزية الحكومة الفيدرالية، وسلطتها الرقابية على رأس المال، ومن التعددية العرقية والثقافية، ومؤامرات الليبراليين والشيوعيين وراء قناع العدالة والمساواة وحقوق الإنسان. وهذا ما شخّصته جين ماير، بكفاءة عالية، في كتاب بعنوان "مال أسود: التاريخ الخفي لأصحاب المليارات وراء صعود اليمين الراديكالي".

وبهذا المعنى، أيضاً، إذا قلنا إن ترامب الشخص، والظاهرة، يمثلان انفصال السياسة عن القيم في مجتمع الفرجة لإمبراطورية في أزمة، ويمثل كلاهما أوّل محاولة ناجحة من جانب اليمين الراديكالي للاستيلاء على أميركا ـ وإعادتها إلى طريق "القدر المُتجلي"، أو "استعادتها" بلغة أنصاره ـ فلن يستقيم هذا القول دون الكلام عن فرق جوهري بين الماضي والحاضر: بين انفصال السياسة عن القيم، وطريق "القدر المُتجلي" في أزمنة مضت، وبين ما يتجلى في الشخص والظاهرة في الوقت الحاضر.

الفرق، الذي لن ينكره حتى أصحاب مدرسة الواقعية السياسية، أن الانفصال وإن بدا فعلياً، وواقعياً، تماماً، في جوهر الفعل السياسي، وما يستدعي من أدوات القوّة، في كل حروب التوسع والفتح، كان حريصاً على تجميل صورته، والتخفي وراء قيم من نوع ما: عبء الرجل الأبيض، القدر المُتجلي، إكراهات الجغرافيا السياسية، أو الديمقراطية وحقوق الإنسان. بينما يتجلى الانفصال في حالة ترامب، الشخص والظاهرة، بطريقة عارية، سافرة، وساخرة، وبذيئة تماماً. ولنا عودة إلى تأملات لاحقة في عالم متغيّر.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تأملات في عالم مُتغيِّر تأملات في عالم مُتغيِّر



GMT 19:04 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

الكتابات القديمة في المملكة العربية السعودية

GMT 18:58 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

كيف غيّر «كوفيد» ثقافة العمل؟

GMT 18:52 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

ليس بينها وبين النار إلاّ (ذراع)

GMT 18:21 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة

GMT 13:52 2016 الأحد ,20 آذار/ مارس

كريم طبيعي مزيل لرائحة العرق

GMT 08:47 2016 الإثنين ,11 كانون الثاني / يناير

البامية للوقاية من الأمراض المستعصية والاكتئاب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca