أخر الأخبار

قمة بغداد... قراءة في الدور العراقي حجماً وأبعاداً

الدار البيضاء اليوم  -

قمة بغداد قراءة في الدور العراقي حجماً وأبعاداً

بقلم : إياد أبو شقرا
بقلم : إياد أبو شقرا

لا يخجلني في حياتي أكثر من أنني لم أحظ بزيارة العراق ولو مرة. مبعث حسرة وألم وندم وشعور لا يقدر بالخسارة... كيف لا والعراق كان جزءاً مني ومن تراث عائلتي حتى قبل أن أولد، ومنه وإعجاباً بتراثه وتأثراً بشخصياته أكرمني أبي باسمي، وفعلت الشيء نفسه عندما استوحيت منه اسم ابني الوحيد.

إنه الوطن والملاذ الذي أكرم الوافد واحتضن الغريب، بكل تناقضاته العجيبة بين القسوة والرقة، وحدة الصراع وطيب المعدن، وشظف الظروف ودِعة العيش، و«إلغائية» السياسة وعبق الفنون والحضارة والفكر والتميز...

إنه العراق... وكفى بهذه الكلمة عنواناً.

لقد وضع العراق بصماته على تاريخ البشرية منذ عصر أور وشرعة حمورابي وتتابع الدول والفتوحات، وغدت فيه بغداد بحق «أول عاصمة عالمية». صارت أول حاضرة تتحاور فيها حضارات «العالم القديم» وتضج شوارعها وأزقتها ومكتباتها ودكاكين ورّاقيها بلغات ذلك العالم. ومنها انطلقت إحدى أعظم موجات الترجمة في تاريخ البشرية فالتقى الشرق والغرب، وتصارعت الأفكار ونوقشت الرسائل السماوية وفسّرت نصوصاً واجتهادات، كما لم تناقش من قبل. ولئن، كانت بغداد ذات يوم عاصمة العالم الأولى... فإن ألقها لا يلغي أدوار بابل (الحلّة) والحِيرة والكوفة والبصرة، ونينوى (الموصل) وأربيل والأنبار في العصور المتعاقبة.

ولكن قبل 100 سنة، رُسمت حدود العراق المعاصر. وكما هي حال منطقة الشرق الأدنى، مهد حضارات العالم القديم، صنعت الحدود المرسومة حديثاً - وافتعالاً - ولاءات وقناعات ونزاعات وأطماعاً لا تزال تفعل فعلها حتى اليوم. إذ قسمت هذه الحدود شعوباً وقبائل على ضفّتي الكيانية التقسيمية. وفي المقابل جمعت أقواماً مختلفة في «زيجات» اضطرارية فرضتها المصالح العليا للآخرين.

وإذا كنا اليوم، عند كل منعطف، نذكر الصراع العثماني - الصفوي الذي تفجّر في القرن الميلادي الـ16،- ولا سيما عند التداول في آفة «تسييس» المذاهب و«مذهبة» السياسة - فإننا ما زلنا ضائعين بين شعارات «واقع التجزئة»، والدولة الدينية العابرة للحدود، والتفريق بين الإقرار بالغبن التاريخي وأصول التفاهم على «وحدة المصير» وأولوية بناء دولة المواطنة، و«حق تقرير المصير» وفق القناعات القومية والعرقية واللغوية.

العراق، بقلبه النابض أبداً، عايش كل العصور وخَبِر كل أشكال التفاهم والإلغاء، ولا يزال. وأما هذا الواقع تُزهَق الأرواح وتُراق الدماء وتُهدَر الثروات عبثاً.

عام 1920 أُسست الدولة العراقية الحديثة في ظل «نظام عالمي جديد» بعد انحسار الدولة العثمانية. ويومذاك تعايشت المكونات العراقية... فتشارك أهل السواد الشيعة في الجنوب مع أبناء الفرات الأوسط السنّة في الغرب، وتعايش الكرد والتركمان والمسلمون العرب والأيزيديون والمسيحيون (نساطرة ويعاقبة) والشُّبُك... وغيرهم في الشمال المتاخم لتركيا من الجنوب ولإيران من الغرب، كما عاش في الجنوب الشرقي عند ضفاف الفردوس النهري العريق أبناء الحضارة المندائية.

هذه التوليفة البديعة تناغمت في جو من التسامح بصورة لافتة تثير الإعجاب... بينما أخذ النظام السياسي العالمي ينزلق نحو صدامات كونية جديدة بلغت شفير الهاوية مع الحرب العالمية الثانية.

بين 1920 و1939 كانت التجربة العراقية قد نجحت إلى حد بعيد في تنظيم التعددية. وبعد اكتشاف النفط والبدء باستثماره تعاقب على وزارة المالية، الوزارة المحوَرية في مرحلة النمو والبناء، يهودي («المعلّم» ساسون حسقيل) وكلداني (يوسف رزق الله غنيمة) ولبناني شيعي (محمد رستم حيدر). كذلك تولت شخصيات كردية وتركمانية ومسيحية لامعة في هذه الفترة والسنوات اللاحقة مناصب قيادية في الحكومات المتعاقبة وكذلك في الجيش، من أمثال جلال بابان وجمال بابان وأحمد مختار بابان وبكر صدقي ونور الدين محمود وروفائيل بطّي وغيرهم كُثر.

غير أن المصالح الدولية المتناقضة، سرعان ما عجّلت في خلق مناخات نزاع وانقسام داخلي. ومع جعل «ألمانيا النازية» بغداد محوراً لنشاطها الإقليمي عبر سفيرها الشهير الدكتور فريتز غروبا، لعب غروبا بالفعل دوراً مهماً من خلال نشاطه في تشجيع التيار العروبي الناقم على «إعلان بلفور» والسياسة البريطانية. وكان من ملامح هذا الدور بروز شباب هذا التيار داخل الجيش العراقي ممثلين بضباط «المربع الذهبي».

«ثورة 1941» (بقيادة رشيد عالي الكيلاني)، ثم قمعها، كانا مفصلاً مهماً في تعميق الانقسام العراقي حتى منتصف عقد الخمسينات أمام خلفية «الحرب الباردة»، ولا سيما، عندما صار العراق عضواً مؤسساً في «حلف بغداد» بقيادة أميركية - بريطانية. وهذا «السيناريو»، الذي جسّد كل أشكال التدخل الخارجي وانعكاساته الداخلية، شهد محطة خروج العراق من الحلف على أثر «ثورة تموز (يوليو) 1958»، ومن ثَم تبادل تصفية الحسابات بين القوميين (بعثيين وناصريين) والشيوعيين، كما برز معه النفور الكردي بقيادة الملا مصطفى البارزاني.

وفي خضم الحسم الدموي للصراع السياسي... صارت الحرب المُعلنة سمة لعلاقة بغداد مع الكرد، والحرب المُضمرة الكامنة بين الشيعة والسنّة. وكما نعرف، مع إسقاط نظام البعث بقوة سلاح الولايات المتحدة، دخلت «إيران الخمينية» العراق... مُستنهضة فيه ولاءات شعوبية قديمة بغلاف مذهبي حديث.

اليوم، مع قمة بغداد، أو «مؤتمر بغداد للتعاون والمشاركة»، يتطلّع العراق، بدعم دولي إلى استعادة المكانة التي تليق به عربياً وإقليمياً. غير أن القوى الدولية الداعمة - على ما يبدو - ما زالت راغبة في تجهيل الفاعل لدى البحث عما يحتاج إليه العراق في مرحلة العودة إلى مكانته المستحقة. وكحال التعامل مع الحالتين السورية واللبنانية – بل واليمنية أيضاً – لا يظهر أن ثمة رغبة في تسمية الأشياء بأسمائها... لا عند الولايات المتحدة المستعجلة على سحب قواتها من العراق رغم ما حدث في أفغانستان، ولا بالنسبة لفرنسا التي يشارك رئيسها إيمانويل ماكرون شخصياً في القمة.

الحقيقة أنه لا علاجات سحرية من دون تحديد سبب العلة، ولا شفاء يُرتجىَ من الحلول المُجتزأة وتجهيل الفاعل والسير قُدماً بتجارب «انتخابية»... وكأن الديمقراطية الحقيقية يمكن أن تتحقق عبر اقتراع يُجرى في ظل هيمنة سلاح ميليشياوي ذي ولاء خارجي.

من ناحية ثانية، إيجابية هذه المرة، يؤمل أن تشكل القمة بالفعل مناسبة لتخفيف التوترات العربية. وهذا أمر مطلوب وضروري لاحتواء الاستغلال الخارجي المتفاقم في المنطقة، وسط طموحات «المثلث» غير العربي (إيران وإسرائيل وتركيا) الذي تسعى القوى الكبرى كل لحساباتها الخاصة إلى استرضائه في كل مناسبة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قمة بغداد قراءة في الدور العراقي حجماً وأبعاداً قمة بغداد قراءة في الدور العراقي حجماً وأبعاداً



GMT 09:12 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

الخضرة والماء والوجه الحسن

GMT 09:08 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

اللبنانيّون وقد طُردوا إلى... الطبيعة!

GMT 09:04 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

الضوء الأخضر للإرهاب

GMT 08:57 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

تايوان... «أوكرانيا الصين»!

GMT 08:52 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

أصوات العرب: جوّال الأرض

GMT 17:43 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 00:06 2017 الخميس ,05 تشرين الأول / أكتوبر

كيفانش تاليتوغ الشهير بـ"مهند" يُحاول إخفاء خبر حمل زوجته

GMT 15:48 2017 الثلاثاء ,31 تشرين الأول / أكتوبر

المخابرات المغربية تستعين بخبرة الشيوخ لمحاربة الإرهاب

GMT 08:35 2018 الجمعة ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

تمتع بسحر الإقامة في فندق "Amanfayun" في هانغتشو الصينية

GMT 13:56 2018 السبت ,30 حزيران / يونيو

حمادي يكشف عن سعيد بأول لقب احترافي في فرنسا

GMT 04:31 2017 الأربعاء ,20 كانون الأول / ديسمبر

أحدث ديكورات الأسقف الحديثة والعصرية في 2018

GMT 04:33 2017 الإثنين ,17 تموز / يوليو

السباحة تُنقذ قطة سمينة من زيادة وزنها

GMT 10:07 2017 السبت ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

فريق الجيش الملكي الأكثر تتويجًا بلقب كأس العرش المغربي

GMT 13:42 2014 الأربعاء ,09 تموز / يوليو

الكسكسي الليبي

GMT 05:30 2015 الإثنين ,21 كانون الأول / ديسمبر

واق ذكري جديد لمكافحة فيروس الإيدز في الأسواق

GMT 01:44 2015 السبت ,05 كانون الأول / ديسمبر

وصال التركي تحيي التراث العربي بتطويع الصلصال الحراري

GMT 04:26 2015 الثلاثاء ,13 تشرين الأول / أكتوبر

سيلينا غوميز تخطف الأنظار بإطلالة مثيرة في نيويورك
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca