مهزلة تحويل لبنان إلى بلد «قوميّ»؟!

الدار البيضاء اليوم  -

مهزلة تحويل لبنان إلى بلد «قوميّ»

بقلم : حازم صاغية

لم يُعرَف عن دعاة الوطنيّة اللبنانيّة المسيحيين أنّهم قوميّون. الدعوة إلى «قوميّة لبنانيّة» بقيت ضعيفة تنحصر في عدد من المثقّفين الذين كان بعضهم ذوي حيثيّات ثقافيّة، أو فكريّة، لكنّهم لم يكونوا ذوي حيثيّات شعبيّة. بين القوى السياسيّة، انحصرت «القوميّة اللبنانيّة» بجماعة «حرّاس الأرز» الذين تحوّلوا لاحقاً إلى حزب. تحوّلُهم هذا لم يَزدْهم أهميّة ولا شهرة.
بين الأربعينات والسبعينات، كان حزب الكتائب اللبنانيّة الأعرض تمثيلاً لدعاة الوطنيّة اللبنانيّة. الحزب لم يكن قوميّاً. أمين ناجي، أحد مُنظّريه، قال في كتابه «فلسفة العقيدة الكتائبيّة»: «ليس في الشعور القومي ما يناقض في طبيعته النظرة والقيمة الإنسانيّتين. ولكنّ الشعور القومي متى خرج عن سياقه الإنسانيّ، جرّ القوميين إلى مهاوي التعصّب فالانزلاق في مفاهيم خاطئة (...) الشعور القومي يتأنسن أكثر فأكثر مع تقدّم البشريّة العامّ (...) والانسجام المنشود لا ينتج فقط عن الانتماء إلى مجتمع قومي واحد. قد تقوم دوافع أخرى لها وقعها الأقوى في نفوس الناس فتتخطّى الشعور القوميّ». رشاد سلامة حين كان كتائبيّاً كتب أنّ «الحديث عن القوميّة اللبنانيّة (...) لم يعد يحمل الإيمان الكافي، لأنّنا نعتبر أنّ العصر قد تجاوز هذه النظرة البدائيّة للأمّة». القادة السياسيون لتلك الحقبة، ككميل شمعون وفؤاد شهاب وريمون إدّه، لم يختلفوا كثيراً عمّا كانته الكتائب.
والحال أنّ «القوميّة» في البيئة المسيحيّة ارتبطت بالقوميين السوريين. حين يقال في وصف أحدهم «قوميّ» لا يُقصَد إلاّ أنّه قومي سوريّ. حتّى القومي العربي كان بحاجة إلى كلمة «عربيّ» كي يُفهم أنّه هو المقصود. «القوميّ» قومي سوري من دون حاجة إلى نعت آخر.
والقوميّون السوريّون كانوا بالفعل كذلك. فهم جمعوا من صفات القوميّة، كما درج معناها بين الحربين العالميّتين في أوروبا، وحتّى الستينات عندنا، المواصفات التي تجعلهم أقرب ظاهرات منطقتنا إلى الفاشيّة: تنظيم عسكري موازٍ وحديديّ، وعلمويّة عنصريّة تدور حول الجماجم والسلالات «المنحطّة والراقية»، وزعامة مطلقة ومعصومة كُرّست للمؤسّس أنطون سعادة، ولاساميّة بلا حدود، ولغة هجوميّة تبحث عن «مدى حيويّ» ولو في جزيرة قبرص. وهذا فضلاً عن القوميّة نفسها كرابطة تصهر الجماعات والأجزاء وتزعم الصدور عن تاريخ مديد والكمون طويلاً تحت قشرة الأرض.
روّاد الوطنيّة اللبنانيّة، في المقابل، لم يريدوا أن يصهروا أحداً في أحد، أو شيئاً في شيء. اللبنانيّون عندهم طوائف دائمة التفاوض من أجل حُسن التعايش. الوحدة الاجتماعيّة والسياسيّة لديهم هي الطائفة، لا الأمّة. أمّا الأمّة فلا تنجم عن صهر طوائفها، بل عن جمعها وتوافقها.
هذا التصوّر استطاع أن يتعايش، بهذا القدر من التوتّر أو ذاك، مع الجمهوريّة الأولى (1943 - 1975). التعايش عبّر عن نفسه في النظام البرلمانيّ، وفي اقتصادٍ رأسمالي متنُه الخدمات، منفتح بالضرورة على العرب والغرب، كما في ثنائي المقاطعة الاقتصاديّة لإسرائيل والهدنة العسكريّة معها.
تلك البنود «الهادئة» تجافي القوميّة العاصفة ومتطلّباتها بقدر ما تجافيها القوميّة.
اليوم، ثمّة أصوات مسيحيّة مبعثرة تتحدّث عن «قوميّة لبنانيّة» ذات عماد مسيحيّ. الأصوات هذه قد لا تكون فاعلة لكنّ الأفعال قد تمنحها بعض الفعاليّة.
من تلك الأفعال نبرة متصاعدة في الاقتصاد: «وظّفوا لبنانيين فحسب. اشتروا سلعاً أنتجها لبنانيّون. أنفقوا في لبنان». في الموازاة، تتزايد السلوكيات والإجراءات العنصريّة التي توالي الهبوط بإيقاع يوميّ، والذريعة الاقتصاديّة خصوصاً توجّه شفرتها ضدّ السوريين والفلسطينيين وغير اللبنانيين في عمومهم. مؤخّراً نُبش قبر طفل سوري لأنّ أرضنا لا تتّسع إلا لمَوتانا.
في المقابل، لم يعد اللبنانيّون يهاجرون. إنّهم ينتشرون. الانتشار هذا يقلب الحاجة الدافعة للهجرة (التي نكافحها في الأجانب) إلى رسالة نمارسها، رسالة فيها شيء من «عبء الرجل الأبيض». إنّ الآخرين يهاجرون ويلجأون لكنّنا نحن... ننتشر.
من ذلك أيضاً تعاظُم الميل إلى استضافة الخرافات في تاريخنا. الكلام الأخير عن «الإرهاب العثمانيّ» يندرج في الخانة هذه. بورصة الفولكلور والزجل تحقّق أرباحاً صافية. احترام الجيش يغدو تقديساً، و«الزعماء المحبوبون» الكثيرون يفسحون المجال لـ«الرئيس القويّ» الذي يقال إنه يخبّئ في جيبه «رئيساً قويّاً» آخر.
هذا كلّه لا يشكّل منظومة وعي قوميّ، لكنّه يؤشّر إلى احتمالها.
صعود الشعبويّات القوميّة في العالم عنصر تشجيع من دون شكّ: وزير الخارجيّة جبران باسيل استشهد، متفاخراً، بالحائط الذي يُراد بناؤه بين الولايات المتّحدة والمكسيك.
لكنّ في ذلك كلّه شيئا من المهزلة. ثلاثة أسباب على الأقلّ تبعث في المراقب هذا الشعور: الاضطرار إلى استئذان «حزب الله» عند كلّ «عملقة» تنوي «القوميّة اللبنانيّة» أن «تتعملقها»، وكون القاعدة التي قد تحمل هذه الدعوة صغيرة وضيّقة ومفكّكة، وحقيقة أنّ الجماعات التي يُفترض بالقوميّة أن تستنهضها متخاصمة ومتنابذة وفي حالة حرب أهليّة كامنة لا ينقصها إلاّ عود الكبريت. هنا تحديداً تبدو المفارقة صارخة: ذاك أنّ دعاة القوميّة أكثر المتسببين بانفراطها الاستباقيّ، تبعاً لتشدّدهم الطائفي الذي لا يتوافق أصلاً مع القوميّة. وهذا، في عمومه، أقرب إلى الإجهاض منه إلى الولادة. لكنّ الإجهاض قد يكون مكلفاً ومؤلماً.

 

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مهزلة تحويل لبنان إلى بلد «قوميّ» مهزلة تحويل لبنان إلى بلد «قوميّ»



GMT 19:04 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

الكتابات القديمة في المملكة العربية السعودية

GMT 18:58 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

كيف غيّر «كوفيد» ثقافة العمل؟

GMT 18:52 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

ليس بينها وبين النار إلاّ (ذراع)

GMT 18:21 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة

GMT 13:52 2016 الأحد ,20 آذار/ مارس

كريم طبيعي مزيل لرائحة العرق

GMT 08:47 2016 الإثنين ,11 كانون الثاني / يناير

البامية للوقاية من الأمراض المستعصية والاكتئاب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca