ثقافة طاردة للشباب

الدار البيضاء اليوم  -

ثقافة طاردة للشباب

آمال موسى
آمال موسى

هناك مشكلٌ حقيقيٌّ في دور الشباب اليوم في مجتمعاتنا. أنفقنا الكثير من الوقت والجهد والتفكير في الحديث عن ضرر المرأة من الثقافة الذكورية الأبويّة وتغافلنا بحكم التركيز على مسألة المرأة عن قضية الشباب الذي يعاني من ثقل الثقافة الأبوية وكيف أنّه اليوم الضحية رقم واحد.

هذا التغافل والتعامل القائم على الإهمال والتجاهل في خصوص فئة الشباب أديا إلى حزمة من المشاكل والأزمات سببها بالأساس إنكار حق الشباب ودورهم. فالبطالة أكثر من يعاني منها هم الشباب. والتطرف يتغذى من سياساتنا التنموية التي أخطأت الربط الذكي والمتين بين المشاريع وتوقعات شبابنا وحاجياتهم.

المفارقة فيما نمارسه من إهمال طويل الزمن بفئة الشباب أن المجتمعات العربية والإسلامية هي مجتمعات شابة ويمثل الشباب فيها ثلث الحجم الديمغرافي وأكثر. وتعدُّ هذه الخاصية من نقاط قوة أي مجتمع يعتمل فيه الحراك وفق أسس إيجابية وتقدمية وبناءة. بلغة أخرى حال المجتمعات الشابة هو أنها تمتلك ثروة بشرية من السواعد والطاقة والحماسة ولديها المحرك الاجتماعي البشري القادر على التغيير والإنجاز خلافاً للمجتمعات الموصوفة بالتهرم التي تعرف مشاكل حقيقية بسبب ضعف الحجم الديمغرافي لفئة الأطفال والشباب معاً، مما يطرح تساؤلات عميقة حول مستقبلها.

ولكن نقطة القوة في مجتمعاتنا المتمثلة في الحجم الديمغرافي الاعتباري شبابيا تتحول في الواقع إلى مصدر أزمات وارتفاع في نسب البطالة ومعدلات الفقر والاغتراب في الدين وعنه. ومن ثمة، فنحن هنا نصل إلى مربط المشكل والإشكال المتمثل في الخلل الذي صاحب فكر التنمية ومشاريعها في بلداننا. هذا مع العلم وهنا مظهر آخر من مظاهر المفارقة والحيرة أنَّ الشباب العربي كان في نهاية القرن التاسع عشر بداية القرن العشرين فاعلاً ومشاركاً في تحرير البلدان العربي المستعمرة آنذاك، حيث لعب الشباب دوراً كبيراً في حركات التحرير العربي وكانوا فاعلين وصناع استقلال بشكل مميز. وأيضاً في بدايات تأسيس دول الاستقلالات في مصر وتونس والجزائر والمغرب وسوريا... اضطلع الشباب بالقيادة وبمعركة التأسيس والبناء، وخاضت كل النخب الشبابية غمار الحكم بشجاعة ووطنية عالية، وكان التركيز على التعليم والصحة وإخراج الإنسان العربي من الجهل والتخلف. بمعنى آخر فقد كان الشباب في الدول العربية الحديثة الاستقلال آنذاك فاعلين ومنتجين ومؤسسين. وكانت بنية التنظيمات الفكرية والآيديولوجية يهيمن عليها الشباب. فمثلاً في تونس باستثناء بورقيبة الذي كان في الخمسينات من عمره إبان استقلال تونس، فإن الفريق الذي أحاطه به ومنحه الحقائب الوزارية كان فريقاً من الشباب من ذلك أن وزير العدل الذي اهتم بموضوع إصدار مجلة الأحوال الشخصية في أوت 1956 وهو الوزير أحمد المستيري كان عمره لا يتجاوز الـ25 سنة.

الذي حصل هو أن النخب الشبابية المؤسسة للدول العربية الوطنية احتكرت الفعل الاجتماعي، وتمسَّكت بالحكم والسلطة والإنجاز، ولم تسمح للشباب بأن يتداولوا على تنمية البلاد من موقع القرار والتفكير.

بل إنَّ الأخطر من ذلك هو أن الشباب كان شبه غائب عن مخططات التنمية، حيث إن هذه المخططات في قطيعة مع تطلعاته وقدراته وخصائصه في مجال الخبرات والطموح، ولعل الأعداد الكبيرة من خريجي الجامعات في بلداننا الذين لم تستطع أسواق الشغل استيعابهم دليل على أن سوق الشغل مهيكلة ومخطط لها دون أي اعتبار لخصائص الشباب وحاجياتهم.

والأكثر خطورة حسب اعتقادنا هو أن هذه القطيعة وهذا الإهمال لفئة حيوية سيكون مستقبل أوطاننا في أيديها قد أنتجا حالة من الإحباط لدى الشباب العربي، وجعله غير مندمج اجتماعياً، ويبحث عن الاعتراف خارج منوال تنمية لم يعترف به، وأسواق شغل اكتشف عند التخرج أن لا مكان له فيها بالشكل الذي يناسب حجمه وأهميته الديمغرافية والاجتماعية.

حصل تحولٌ مفاجئ من مرحلة كان فيها الشباب في الصف الأول في مرحلة الاستعمار وتأسيس دول الحديثة الاستقلال في الخمسينات والستينات من القرن الماضي إلى مرحلة تهميش الشباب وتغيبه بشكل لافت.

ولقد بدأت تظهر نتائج هذا التهميش منذ بداية التسعينات من القرن الماضي، إذ إن الشبكات الجهادية التكفيرية استثمرت في الخزان الديمغرافي الشبابي المحبط، ووظفت ما يعانيه من انشقاق اجتماعي وإكراهات اقتصادية في غسل دماغه وتجنيده للموت والقتل والانتحار، من دون أن ننسى مدلولات ظاهرة الهجرة السرية التي نهشت الشباب المغاربي بشكل خاص. ورغم كل المؤشرات التي أظهرت تداعيات إهمال فئة الشباب وإبعادها عن مواقع القرار والفعل والمسؤولية، فإنَّ هذه النظرة غير المهتمة بالشباب لا تزال سائدة ومستمرة، وكأن كل الأحداث التي عشناها لم نفك شفراتها المرسلة من الشباب. لننظر إلى الأحزاب في العالم العربي سنجد أن بنية التنظيمات أبوية وهي المهيمنة، في حين أن الشباب لا يفكر فيه إلا كقاعدة انتخابية، ولم يتم الاعتبار من ظاهرة العزوف ورفض الاقتصار على دور الخزان الانتخابي.

وحتى في الثقافة: هناك مبدعون من شتى الحقول الفنية والأدبية لا يعترف بالواحد منهم إلا إذا جاوز النصف قرن، والحال أن جيل نزار قباني ومحمود درويش وصلاح عبد الصبور... هؤلاء وغيرهم حققوا مجدهم الإبداعي وهم في عز الشباب.

السؤال هو: لماذا نتعامل مع الشباب من وجهة نظر تقزيمية تفتقد إلى الرّهانية؟

نطرح هذه الأسئلة لأنه لا انفراج لأزماتنا من دون إيلاء الشباب كل ما منحته لهم الطبيعة والعمر والتاريخ والثقافة العالمية من طاقة وقدرة على البناء والتجربة. وكم نحن في حاجة إلى شبابنا في هذه اللحظة التي نعاني فيها نحن الكهول والكبار من الوهن واليأس.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ثقافة طاردة للشباب ثقافة طاردة للشباب



GMT 19:04 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

الكتابات القديمة في المملكة العربية السعودية

GMT 18:58 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

كيف غيّر «كوفيد» ثقافة العمل؟

GMT 18:52 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

ليس بينها وبين النار إلاّ (ذراع)

GMT 18:21 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca