الحياد من الرئيس شهاب إلى البطريرك الراعي

الدار البيضاء اليوم  -

الحياد من الرئيس شهاب إلى البطريرك الراعي

بقلم - مصطفى فحص

وَحدَه الرئيس اللبناني الأسبق الجنرال فؤاد شهاب، طبّق فعلياً سياسة حياد يمكن وصفها بالإيجابية، قامت على التفاهم مع القاهرة، عاصمة الجمهورية العربية المتحدة آنذاك، على فكرة التماهي اللبناني مع السياسة الخارجية لمصر بما لا يضر مصالح الدولة اللبنانية، مقابل عدم تدخل القاهرة ودمشق في شؤون لبنان الداخلية. ساعدت هذه المعادلة أو الصفقة لبنان على تجاوز الاضطرابات السياسية التي جرت بين مكوناته الحزبية (يسار ويمين) والطائفية (مسلمين ومسيحيين) المنقسمة ما بين المدى الناصري و«حلف بغداد»، التي أثرت على استقرار الحياة السياسية في عهد سلفه كميل شمعون (1952 - 1958) الذي انحاز إلى «حلف بغداد»، وواجه المد الشعبوي الناصري، ما أدى إلى صراع مسلح كان أقرب إلى حرب أهلية جزئية وتدخلات إقليمية ودولية كان أبرزها نزول القوات البحرية الأميركية (المارينز) على الشاطئ اللبناني بعد أقل من 24 ساعة على الانقلاب العسكري المشؤوم الذي جرى في بغداد في 14 يوليو (تموز) 1958.
في اللقاء الشهير بين الرئيس فؤاد شهاب والرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي جرى في خيمة نُصبت على الحدود اللبنانية السورية في 25 مارس (آذار) 1959، نجح شهاب في تكريس خصوصية لبنان، وضرورة حياده وتحييده عن الصراعات العربية - العربية. وفي هذا الخصوص، يروي وزير خارجية لبنان الدكتور فؤاد بطرس، في مذكراته السياسية عن اجتماع الخيمة، أنه «أرسى معادلة ثابتة شكّلت صمّام أمان للاستقرار في لبنان حتى هزيمة عام 1967: احترام سيادة لبنان من جانب القطب العربي الأبرز مقابل التفاهم على ألا تتعارض السياسة الخارجية اللبنانية مع السياسة العربية والدولية التي تنتهجها الجمهورية العربية المتحدة، لكن من غير أن يفرض ذلك على لبنان التخلي عن صداقاته مع العالم الخارجي».
بعد مرور قرن على تأسيس الكيان اللبناني، ونصف قرن على نهاية عهد فؤاد شهاب، وأربع سنوات على انتخاب ميشال عون، وقرابة تسعة أشهر على انتفاضة «17 تشرين»، أعاد رأس الكنيسة المارونية اللبنانية الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الاعتبار إلى أهمية خيار الحياد الذي يحتاجه لبنان في ربع الساعة الأخير قبل سقوط الدولة والكيان، واضمحلال الفكرة التي قام من أجلها لبنان.
لم يتردد البطريرك الراعي في عِظته الأسبوعية عن دعوة رئيس الجمهورية الذي وصل إلى منصبه نتيجة انحيازه إلى محور إقليمي، إلى تحرير الشرعية الوطنية من قيودها، فالواضح أن امتعاض الكنيسة المارونية العلني ومن خلفها الفاتيكان، بسبب قلقهما من تداعيات مصادرة قرار الدولة وتعطيل مؤسساتها، وانحيازها الإقليمي المكلف سياسياً واقتصادياً، دفع بكركي إلى قرع أجراسها تحذيراً من مغبة خسارة لبنان لموقعه، والمسيحيين لحجمهم، والمارونية لدورهم، وهو ما فرض عليها بعد مائة سنة على تأسيس لبنان الكبير الدعوة إلى إعادة بناء الدولة، وإعادة تصحيح فكرة الكيان، في تقاطع مع المبادئ التي طرحتها انتفاضة «17 تشرين»، وباتت تمثل مخرجاً لأزمات الطوائف الداخلية، وفيما بينها، وعلاقتها بالدولة.
لا يمكن للممتعضين من دعوة الراعي للحياد اتهامه بالانعزالية أو بخيانة الثوابت الوطنية والعربية، ففي عظة يوم الأحد 19 يوليو، أكد الراعي أن «لبنان يلتزم العدالة والسلام والانفتاح على جميع الدول، ما عدا إسرائيل، كما يلتزم تعزيز حوار الأديان والحضارات والدفاع عن القضايا العربية المشتركة من دون الدخول في حروب واتفاقات وأحلاف إقليمية ودولية وعقائدية ودينية وحزبية»، فهو بذلك قد أغلق الطريق على من يريد التصويب على دعوته للحياد من بوابة الصراع مع إسرائيل، وتحرير ما تبقى من أراضٍ لبنانية محتلة.
لا يمكن الفصل بين تاريخ لبنان الحديث ودور الكنيسة المارونية وترابطهما من البطريرك الحويك (1920) إلى البطريرك صفير (2005) إلى البطريرك الراعي (2020)، وهي أحداث مرتبطة بقواعد ثابتة ملتزمة فكرة الدولة والعيش معاً، تدفع الكنيسة كمؤسسة رعوية وراعية إلى التعبير عن مسؤوليتها الوطنية تجاه الأحداث الراهنة، وكيفية إخراج لبنان من مأزقه وعزلته العربية التي فُرضت عليه بسبب اعتقاد بعض الأطراف أن غلبتهم المؤقتة قد توفر لهم حضوراً أكثر فاعلية في الدولة، وأن انشغالاتهم الخارجية ستفرض نفسها دولياً ما قد يتيح لهم فرصة قد لا تتكرر تمكنهم من تبديل موقع لبنان التاريخي.
وعليه، فإن فريق الغلبة وتوابعه في السلطة بات في مواجهة انتفاضتين؛ الأولى «17 تشرين»، وما تمثله من شرعية شعبية، والثانية الكنيسة المارونية التي تتصرف باسم الغالبية الوطنية، بوجه غلبة محلية وإقليمية تعاني من انحسار دورها وفشل خطابها.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الحياد من الرئيس شهاب إلى البطريرك الراعي الحياد من الرئيس شهاب إلى البطريرك الراعي



GMT 19:04 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

الكتابات القديمة في المملكة العربية السعودية

GMT 18:58 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

كيف غيّر «كوفيد» ثقافة العمل؟

GMT 18:52 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

ليس بينها وبين النار إلاّ (ذراع)

GMT 18:21 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى

جورجينا تثير اهتمام الجمهور بعد موافقتها على الزواج وتخطف الأنظار بأجمل إطلالاتها

الرياض - الدار البيضاء اليوم

GMT 18:19 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

قد تمهل لكنك لن تهمل

GMT 18:22 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر مع تنافر بين مركور وأورانوس

GMT 19:18 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحاول أحد الزملاء أن يوقعك في مؤامرة خطيرة

GMT 18:00 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تبحث أمراً مالياً وتركز على بعض الاستثمارات

GMT 12:52 2013 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

هل الدكتور دكتور والمهندس بالفعل مهندس؟

GMT 00:29 2017 الخميس ,26 تشرين الأول / أكتوبر

مشاحنات في جنازة سعيد بونعيلات بين عائلته ورفاقه

GMT 20:49 2019 الجمعة ,03 أيار / مايو

النشاط والثقة يسيطران عليك خلال هذا الشهر

GMT 05:23 2018 الجمعة ,05 تشرين الأول / أكتوبر

موديلات فساتين للمحجبات من أسبوع الموضة في نيويورك

GMT 22:09 2015 الثلاثاء ,17 شباط / فبراير

افتتاح فرع جديد من "المطعم البلدي" في مراكش

GMT 02:51 2015 الخميس ,08 تشرين الأول / أكتوبر

شاب هندي يعاني من مرض الشيخوخة المبكرة

GMT 23:51 2021 الأربعاء ,20 كانون الثاني / يناير

تفاصيل "اجتماع الأزمة" بين أبرشان ولاعبي اتحاد طنجة
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
RUE MOHAMED SMIHA,
ETG 6 APPT 602,
ANG DE TOURS,
CASABLANCA,
MOROCCO.
casablanca, Casablanca, Casablanca