الرهانُ على أ

الدار البيضاء اليوم  -

الرهانُ على أ

مصطفى اللّداوي
بقلم - مصطفى اللّداوي

كأنه مكتوبٌ على الفلسطينيين أن يقضوا عمرهم كله ينتظرون مواقف الإدارة الأمريكية، ويلتمسون عطفها ويبحثون عن رضاها، ويتوقعون مساعدتها ويطلبون العدل منها، ويرجون تأييدها ويتجنبون غضبها، ويطيعون أمرها ويخافون من سخطها، وينسقون معها ويعملون لها، ظناً من قيادتهم المتنفذة أنها هي التي تملك مفاتيح القضية الفلسطينية، وأن أي حلٍ يتعلق بمستقبلهم ينبغي أن يكون من خلالها، بموافقتها وبرعايتها، وبمباركتها وضمانتها، وبشروطها ووفق رؤيتها.

فهي الضامنة لأي اتفاق، والراعية لأي مفاوضات، والمؤثرة على النتائج والمآلات، وهي التي تستطيع تمرير الحلول أو تجميدها، وفرض الاتفاقيات أو نقضها، إذ هي القوة العظمى وصاحبة حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن، التي لا يمر قرارٌ بدون موافقتها، وهي التي تستطيع أن تضغط على الحكومات الإسرائيلية وتلوي عنقها، وتلجم سياستها وتحد من عدوانها، بنفس القدر الذي تغدق فيه عليها وتدعمها، وتساندها وتؤيدها، وترعاها وتحميها.

يهزأ الفلسطينيون من قيادتهم، ويتندرون عليها، ويتهمونها بالخبل والهبل، والعبط والسفه، وقلة العقل وغياب الحكمة، إذ يربطون مصير قضيتهم بالولايات المتحدة الأمريكية، ويصدقون وعودها ويعيشون على أمل الوفاء بها، ويرهنون مصيرهم بها، ويعطلون حياتهم في انتظار قرارها، ولا ييأسون من حنثها في قسمها، ونكثها في وعودها، وعدم الوفاء بالتزاماتها، بل يبررون لها أحياناً، ويمنحونها المزيد من الوقت، ويعطونها فرصاً أخرى ثقةً فيها، واطمئناناً إلى صدقها معهم ووفائها بالتزاماتها تجاههم، ويبدون استعدادهم لتقديم المزيد من التنازلات من أجلها، لتسهيل مهمتها، وتمكينها من فرض رؤيتها على الجانب الإسرائيلي.

يمضي الزمن وتتوالى السنون، وتتعقد الظروف وتتغير الوقائع، وتتعاور الحكومات الإسرائيلية، وتتبدل الإدارات الأمريكية، بينما القيادة الفلسطينية على ثباتها وموقفها لا تغير ولا تبدل، تنتظر قرار الإدارة الأمريكية الجديدة، أو تصبر حتى رحيل الإدارة الأمريكية الحالية، وهي بين الصبر والانتظار تقضي أربع أو ثماني سنواتٍ قابلة للمضاعفة والزيادة، إلا أن شيئاً لا يتغير أبداً في السياسة الأمريكية، سواء كانت ديمقراطية أو جمهورية.

وكأن الإدارات الأمريكية كلها قد تعاهدت على موقفٍ واحدٍ، والتزمت بسياسة ثابتة تجاه القضية الفلسطينية، بما ينسجم ويتوافق مع المصالح الإسرائيلية، ولكن القيادة الفلسطينية لا تريد أن تفهم هذه الحقيقة، إن لم نقل أنها لا تفهمها ولا تعقلها، ولهذا فهي تصر على الانتظار، وتمارس الصبر السلبي الذي أضر بقضيتنا كثيراً، وأفقدنا الكثير من عوامل القوة والصمود، وأورثنا يأساً وهواناً نعاني منه دائماً.

قد لا نتحدث كثيراً عن الإدارات الأمريكية الجمهورية، التي تعتمد تجاهها القيادة الفلسطينية سياسة الصبر، ليأسها منها وعدم أملها فيها أو اطمئنانها إليها، إذ تعرف مواقفها، وتعلم سياستها، وتدرك ولاءها المطلق للكيان الصهيوني، ورعايتها التامة له، فلا خير يرتجى منها، ولا أمل يتوقع فيها، ولهذا فهي تصبر عليها حتى ترحل، أو تنتظر المستحيل منها أن يتحقق، فيضيع الزمن ونخسر الفرص، ونحن ننتظر انتهاء ولاية الجمهوريين التي تتجدد غالباً، ولا يطول غيابها حتى تعود، لترجع بنا إلى نقطة الصفر من جديد، وتتراجع عما قدمه الديمقراطيون، وتهدم ما بنوه أو تعهدوا به، رغم أنهم لا يقدمون إلا وهماً، ولا يعرضون إلا سراباً، اللهم إلا إذا كان يخدم الإسرائيليين وينفعهم.

لكن المصيبة الكبرى هي في الإدارات الديمقراطية الأمريكية، التي تأمل فيها القيادة الفلسطينية وتصدقها، وتسلم لها وتطمئن إليها، بينما هي أسوأ من الجمهوريين وأكثر سوءً منهم، إذ تبدو ناعمة لطيفة، معتدلة متزنة، منصفة عادلة، موضوعية شفافة، حريصة على قيم العدالة وحقوق الإنسان، بينما في حقيقتها توالي الكيان الصهيوني وتلتزم معه، وتقدم له بصمتٍ وهدوءٍ أكثر مما يقدمه الجمهوريون، وتقوم بتسوية الطريق لها، وتمهد السبل أمامها، وتزيل العقبات التي تعترضها، في الوقت الذي تساندها فيه بالسلاح والأموال والتقنيات الحديثة والتكنولوجيا المتطورة، وتدعمها في مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة ومختلف منظماتها الدولية، ورغم ذلك فإن القيادة الفلسطينية تصدقها وتثق فيها، وتسلم لها وتطمئن إليها.

علماً أن الإدارات الديمقراطية الأمريكية السابقة، بدءاً من عهد جيمي كارتر الذي سبق أوسلو بسنواتٍ، وأسس مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات لحكمٍ ذاتيٍ موسعٍ، يخسر فيه الفلسطينيون السيادة على أرضهم، ويفقدون حق إقامة دولةٍ في وطنهم، قد مهد الطريق لحلٍ سيأتي بعده، يقضي فيه على الحلم الفلسطيني في استعادة أرضهم وبناء دولتهم.

مروراً بالرئيس بيل كلينتون الذي حكم ثماني سنواتٍ أخرى، لم يقدم فيهما شيئاً للفلسطينيين، غير أنه ساومهم على مدينة القدس، وفاوضهم على حقوقهم، وجردهم من ثوابتهم، وأجبرهم على التنازل عن ميثاقهم، وماطلهم في وعوده، وكذب عليهم في لقاءاته، رغم أنه كان قادراً لو كان صادقاً أن يضغط على الإسرائيليين ويرغمهم، ويجبرهم على القبول بحلٍ يرضي الفلسطينيين ويسكتهم، لكنه ما كان صادقاً، بل كان كاذباً ناعماً مخادعاً، ميالاً إلى الإسرائيليين وحريصاً عليهم.

أما أوباما الذي حكم ثماني سنواتٍ أخرى، فلا أظنه قدم شيئاً ذا بالٍ، إذ في عهده تجمدت المفاوضات، ووصلت إلى طريقٍ مسدودةٍ، وعجز عن مواجهة نتنياهو والتصدي له، وانشغل بملفاتٍ أخرى كثيرة غير القضية الفلسطينية التي تركها نهباً للحكومات الإسرائيلية، تقضم أرضها وتصادر حقوق أهلها، وتوسع الاستيطان، وتمارس القمع والقتل والاعتقال ضد السكان، وكان معه نائبه بايدن المتفق معه في السياسة، الذي أصبح رئيساً جديداً للولايات المتحدة الأمريكية.

أعلن الأخيرُ عن نيته العودة إلى السياسة الأمريكية التقليدية، السياسة التي لا تسمن ولا تغني من جوعٍ، وكأنه بها يدفع الفلسطينيين إلى النوم في العسل من جديد، والدخول في مسلسل الأحلام الوردية والأماني العسلية، راجياً أن يصدقوه ويطمئنوا إليه، ويلقوا بقربتهم المقاومة على الأرض انتظاراً لغيثٍ منه لن يكون، ويسكبوا جرة عسل شهدائهم ومقاوميهم، وجنى نضالهم وحصاد مقاومتهم، أملاً في وهمٍ لن يتحقق وأملٍ لن يكون، وينسى الفلسطينيون أن "من يُجَرِبُ المُجَربَ عقلُهُ مُخَرَبٌ".

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الرهانُ على أ الرهانُ على أ



GMT 09:12 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

الخضرة والماء والوجه الحسن

GMT 09:08 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

اللبنانيّون وقد طُردوا إلى... الطبيعة!

GMT 09:04 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

الضوء الأخضر للإرهاب

GMT 08:57 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

تايوان... «أوكرانيا الصين»!

GMT 08:52 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

أصوات العرب: جوّال الأرض

GMT 11:50 2021 الثلاثاء ,26 تشرين الأول / أكتوبر

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 18:22 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر مع تنافر بين مركور وأورانوس

GMT 08:12 2017 الإثنين ,11 كانون الأول / ديسمبر

أويلرز يفوز على مونتريال في دوري هوكي الجليد

GMT 05:03 2017 الأربعاء ,27 أيلول / سبتمبر

شخص ملثم أضرم النار داخل مسجد فجر الاربعاء

GMT 17:08 2018 الإثنين ,08 تشرين الأول / أكتوبر

"المغرب اليوم" يكشف عن أجر "جون سينا" في" التجربة المكسيكية"

GMT 06:44 2018 الأربعاء ,26 أيلول / سبتمبر

"كالابريا" أحد كنوز إيطاليا الخفية عن أعين السائحين

GMT 01:14 2018 الإثنين ,03 أيلول / سبتمبر

مرتجي يؤكد استعداد الأهلي إلى "حدث تاريخي"

GMT 06:21 2018 الإثنين ,02 تموز / يوليو

أحلام تهتف باسم الملك وتُغني للراية الحمراء
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca