تدويل الأزمة السودانية... حل أم تعقيد؟

الدار البيضاء اليوم  -

تدويل الأزمة السودانية حل أم تعقيد

عثمان ميرغني
بقلم :عثمان ميرغني

المبادرة التي أعلنتها بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (يونيتامس) على لسان رئيسها فولكر بيرتس هذا الأسبوع، أحدثت ردود فعل واسعة وأثارت جدلاً وانقسامات في الساحة السودانية بين رافض ومرحب ومتحفظ ومتخوف. فهل ستكون هذه المبادرة مدخلاً للحل، أم أنها في ظل انقسامات المواقف والعدد الكبير من المدعوين للمشاركة ستزيد في تعقيد المشهد؟
مع الإقرار بوجود فوارق بين الأزمات، إلا أنه بشكل عام يمكن القول إن سجل الأمم المتحدة في التدخل لحل الأزمات في المنطقة، وبشكل خاص أزمات ما بعد الربيع العربي، ليس مشجعاً، من سوريا إلى ليبيا واليمن، بل إن هناك من يرى أنه أسهم في تعقيد الأزمات والمفاوضات.
عموماً لست من أنصار التدخلات الخارجية، وقناعتي أن الأزمات من الأفضل أن تحل داخلياً إذا خلصت النيات، وقدم الناس مصالح بلدانهم وشعوبهم على الحسابات السياسية الضيقة، والطموحات الشخصية، والمصالح الحزبية أو الفئوية والجهوية. لكن الأمور لا تسير في كثير من الأحيان على هذا النحو، ويعجز أبناء البلد الواحد عن الحوار وفي التلاقي على ما فيه حل أزماتهم ومصلحة بلدانهم، مما يستدعي وساطات وتدخلات خارجية.
والذين يشتكون اليوم في السودان رافضين أو مستنكرين للوساطة الأممية، عليهم أن يعترفوا بأن خلافاتهم وصراعاتهم هي التي قادت إلى هذا الوضع. فالمبادرة الأممية لم تصدر إلا بعد أن بدا جلياً أن الساحة مشتتة، والحلول عصية، والأزمة تفرز المزيد من التعقيدات التي باتت تهدد البلد وسلامته ووحدته بشكل جدي. الخلافات والصراعات، المكشوف منها والمستتر، هي لب الأزمة، ومن دون أن تتوصل القوى المختلفة إلى حلول، فإن البعثة الأممية لن تستطيع حلها نيابة عنهم، ما يعني إما فشل المشاورات والمحادثات التي تجرى برعايتها (بتيسير منها وفقاً لتعبير بيرتس)، أو الانتهاء إلى حلول جزئية لا ترضي كل الأطراف الرئيسية وبذلك تستمر الأزمة.
البعثة الأممية لا تملك عصا سحرية، ولا صلاحيات غير محدودة، ومن الخطأ تضخيم دورها والتعويل على أنه سيكون الحل. فالبعثة التي أنشئت وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2524 في يونيو (حزيران) 2020 وبطلب سوداني تعمل وفق الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة الذي يخوّلها صلاحيات محدودة تقوم أساساً على دعوة أطراف النزاعات المعنية إلى التفاوض والحوار والتحكيم. هذا الأمر يختلف بالطبع عن الفصل السابع الذي كان السودان خاضعاً له في السابق، وهو يعطي مجلس الأمن صلاحيات واسعة للتدخل تصل إلى حد استخدام القوة لفرض قراراته.
صحيح أن البعثة الأممية تتمتع بنفوذ مستمد من المنظمة الدولية وربما بشكل أدق من مجلس الأمن، لكنه ليس نفوذاً بلا سقف. ففي الحالة السودانية نجد أن أعضاء مجلس الأمن ليسوا على موقف واحد، إذ تقف روسيا والصين أقرب إلى المكون العسكري، مقابل الموقف القوي من جانب الأعضاء الغربيين إلى جانب الثورة السودانية.
في هذا الوضع فإن القوة الحقيقية للمبادرة الأممية ربما تكون في عصا العقوبات «الفردية» التي تلوّح بها أميركا في وجه المكون العسكري تحديداً، والعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول الغربية والمؤسسات الدولية والمتمثلة في وقف كل المساعدات والإجراءات التي توصلت إليها حكومة الدكتور عبد الله حمدوك، وتعطلت بسبب انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول).
هل يعني ذلك أن الأطراف التي ترفض المبادرة الأممية لديها مبرر بالنظر إلى كل ما تقدم ذكره؟
في تقديري أنه لا مبرر لرفض الدعوة في هذه المرحلة كونها «مشاورات». أضف إلى ذلك أن كل المساعي التي قامت بها أطراف سودانية وصلت إلى طريق مسدود بسبب الاختلافات والصراعات، بينما أوضاع البلد عموماً تتدهور بشكل مخيف، وتتجه نحو انهيار كبير في ظل عدم وجود حكومة، وفي ظل انفلات أمني واضح، وتردٍ معيشي واقتصادي غير مسبوق.
الواقعية السياسية تفترض ألا يرفض الناس المبادرة، فالمحادثات لا تعني أن يتخلوا عن مطالبهم، كما أنها لا تعني وقف الثورة. الأوضاع الراهنة تقتضي مرونة، بمعنى أن يسير الناس على أكثر من مسار لتحقيق أهدافهم. مسار المحادثات إنْ كانت ستفضي إلى النتائج المطلوبة، وفي الوقت ذاته استمرار مسار الثورة باعتباره الأصل وورقة الضغط الأهم. فالثورة ليست فعلاً مستمراً إلى ما لا نهاية، بل هي وسيلة لتحقيق مطلب الانتقال نحو الحكم المدني الديمقراطي، وتحقيق شعاراتها في الحرية والسلام والعدالة.
المهم بالنسبة للمكون المدني الواقف في صف الثورة أن يعمل سريعاً على رص صفوفه، والاتفاق على ورقة واحدة، ومطالب موحدة يدخل بها إلى المشاورات. فإن فعل ذلك سيكون موقفه قوياً وسيحقق جل مطالبه، وسيعيد الانتقال إلى مساره نحو الانتخابات الديمقراطية، ويحقن دماء الشباب الذين قدموا تضحيات هائلة. أما إذا استمر التشرذم الحالي فإن المبادرة لن تحقق شيئاً، بل قد تؤدي إلى مزيد من الخلافات والتعقيدات. ليس منطقياً ولا مقبولاً أنه بعد ثلاث سنوات على الثورة ما زال الناس يتحدثون عن ضرورة حل الخلافات ورص الصفوف.
المشكلة أن كل الحقائق الماثلة أمامنا لا توحي بأن المكون المدني سيوحد موقفه ورؤاه حول ورقة واحدة. فالمواقف إزاء دعوة بيرتس جاءت متباينة، وهناك أكثر من خمس ورقات متداولة طرحتها القوى المدنية وستكون مرشحة للزيادة مع فتح باب المشاورات الأممية. هذا التعدد في الأوراق لن يكون مفيداً إذا قدمت كلها بشكل مباشر أو غير مباشر في المحادثات التي ترعاها البعثة الأممية. لا يفترض أن تكون الأمم المتحدة هي الجهة التي توفق بين أوراق المكون المدني، إلا إذا كان هذا المكون يتملص من واجباته، ويرمي بها إلى البعثة الأممية ليلقي عليها مسؤولية الفشل في عدم الاتفاق لاحقاً.
الأجدر أن تتحمل القوى السياسية والمدنية مسؤولياتها، وتنحي خلافاتها ومناوراتها، وتجلس لتوحد مواقفها في ورقة واحدة واضحة وقوية تحدد فيها مطالبها. فهذا هو السبيل الوحيد للتسريع بتحقيق مطالب الثورة، والذي يمكن أن يختصر الطريق ويقلص التضحيات التي يقدمها شباب الثورة بلا حساب حتى الآن.
فالكثير سيعتمد على مدى قدرة المكون المدني على توحيد صفوفه، لذا حصرت حديثي عليه ولم أتطرق إلى المكون العسكري الذي يقف على الطرف الآخر من المعادلة. الأمم المتحدة محقة عندما تقول إن الحل ليس بيدها وإنه يعتمد على السودانيين أنفسهم. وحتى إن كان ممثلها بيرتس يحمل معه بعض الأفكار والمقترحات، فإنه لن يستطيع فرضها عليهم.
الكرة في ملعب المكون المدني والكثير يتوقف على كيف سيتصرف، وما إذا كان قد استفاد فعلاً من تجربة السنوات الثلاث الماضية بكل عثراتها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تدويل الأزمة السودانية حل أم تعقيد تدويل الأزمة السودانية حل أم تعقيد



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة

GMT 13:52 2016 الأحد ,20 آذار/ مارس

كريم طبيعي مزيل لرائحة العرق

GMT 08:47 2016 الإثنين ,11 كانون الثاني / يناير

البامية للوقاية من الأمراض المستعصية والاكتئاب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca