التآمر المزدوج

الدار البيضاء اليوم  -

التآمر المزدوج

آمال موسى
آمال موسى

يفسر الكثيرون ما تعيشه المجتمعات العربية والإسلامية من توترات وتخلف وجمود حضاري استناداً إلى ما بات يُعرف بنظرية التآمر. ويتراوح التعامل مع هذا التفسير بين النفي والاستنكار والتبني المطلق. أي أنّ هناك من يستخف بالتفسير التآمري على العرب والمسلمين ويرى أنه ذريعة الضعفاء ومن لا حول لهم ولا قوة، ومن يتوهمون أنفسهم ضحايا والحال أنّهم وحدهم من يتحمل التقهقر الذي بلغوه مع سبق الإصرار والترصد.

وفي مقابل النخبة الرافضة لنظرية التآمر نجد نخبة تؤكدها وتقدم البراهين حول سعي الآخر لعرقلة تطور العالم العربي وتكبيله بشتى القيود، كي يظل في المرتبة الدونية نفسها في مجال التقدم، ويرتكز موقفهم حول فكرة صلبة مفادها أن مصلحة الغرب لا تتماشى مع حدوث مظاهر نهضة في بلداننا؛ لأن ذلك يعني التحول إلى بلدان قوية، وهو بدوره ما يتعارض جملة وتفصيلاً مع مصالح العالم التي بنيت على الدفاع على دولة إسرائيل وعلى تقليم أظافر الحضارة العربية والإسلامية لتظل هامشية.

وكما نلاحظ فإن هذين التفسيرين والموقفين يتميزان بالإطلاقية والصلابة من حيث الفكرة. ولقد رأينا على امتداد قرن أو أكثر كيف أن كثيرا من الكتابات الفكرية حامت حول إثبات ما يتعرض له العالم العربي والإسلامي من مؤشرات ومظاهر تآمر تهدف إلى إضعافه وتعميق أسباب الضعف المختلفة، وأيضاً كتابات أخرى مارست نوعاً من النقد الذاتي واختارت النبش والحفر في العوامل الذاتية لحالة الجمود الحضاري العربي والإسلامي، وهو ما يعني صراحة أن المهيمن على الفكر العربي المنتج هو هذه المسألة حتى وإن بدت لنا بعض الإشكاليات بعيدة ظاهرياً.
من هذا المنطلق يبدو لنا أنه بعد عقود من التجاذب بين هذين التفسيرين قد حان الوقت كي نقوم بعملية تعديل تنتج لنا قراءة مختلفة لمسألة التآمر، وذلك في ضوء مراجعة موضوعية وعقلانية متحررة من مبالغات الآيديولوجيا وما تنشره من تعصب يؤدي إلى تفسير غير موضوعي، ومن ثم فهو تفسير يزيد في حالة اللافهم ويمد في أنفاس الأزمات العربية ويطيل في العقول أعمار الأوهام التي أضحت مقدسة من فرط الاعتقاد بها. فكل تفسير غير دقيق ويفتقد الموضوعيّة هو في الحقيقة تفسير خاطئ ولا يمكن الاعتماد عليه أو الوثوق به.
ويتمثل تعديل مقاربة التآمر في الاعتراف بما تضمنه التفسيران معاً، وهو ما يقودنا إلى تبني تفسير ثالث ينهل من التفسيرين المشار إليهما، ولكنه يمتاز عليهما بالدقة والموضوعية وبمزيج من الاعتراف والنقد معاً.
فنحن فعلاً نتعرض منذ عقود طويلة إلى مؤامرة تهدف إلى منع تشكل أسباب التقدم في الفضاء العربي الإسلامي وجعل الإمكانيات التي نمتلكها تستثمر في غير صالحنا. ولكن في الوقت نفسه فنحن أيضاً منذ قرون ونحن نتآمر على الذات العربية الإسلامية وفعلنا كل ما في وسعنا حتى لا نتقدم، وفشلنا في استثمار عناصر قوتنا وسقطنا في فخ التفرقة بين دولنا مما أدى إلى التفكك والتجزئة. بمعنى آخر نحن من سرّع في تأخرنا ومن جعل حجم التأزم كبيراً وعميقاً.

طبعاً هناك من يعتقد جازماً أنه حتى لو نجحنا ولم نتفرق وحافظنا على وحدتنا فإننا لن نبلغ أي هدف والقوة ممنوعة علينا؛ إذ إنه منذ تاريخ وعد بلفور فإن تشكيل العالم وتحديد موازين قواه لا يسمح بتشكل قوة عربية إسلامية.

وفي الحقيقة وبشكل عقلاني محض ما كان لإسرائيل أن تحقق ما تحصلت عليه من قرب من الولايات المتحدة ومن مكاسب دولية ومن قيام الدولة الإسرائيلية وحصدها الاعترافات وفرض نفسها أمراً واقعاً بالقوة إلا بإضعاف الطرف العربي وجعل وزنه خفيفاً وغير مؤثر فيما سمي النزاع العربي الإسرائيلي. وهنا نستحضر فقط الوضع العربي منذ حرب الخليج الأولى وكيف مثلت هذه الحرب بداية الإضعاف الحقيقي، حيث استندت إلى إضعاف الدول الإقليمية دولة دولة وتحويلها من دولة إقليمية في منطقة الشرق الأوسط إلى دولة منشغلة بمشاكلها الداخلية وانهياراتها، وفجأة أصبحت المشاكل العرقية والمذهبية تستحوذ على كل الطاقة والجهد في اللحظة التي كان فيها الآخر يطور العمران والاقتصاد.
وفي السياق نفسه لا يخفى الحصار الذي يعاني منه العلم وكيف أن الأبواب لا تفتح إلا للنوابغ الذين يختارون تقديم نبوغهم لمراكز الأبحاث والجامعات العالمية مما يقطع الصلة بينهم وبين إمكانية استفادة بلدانهم من علمهم. فحتى في العلم ممنوع تجاوز الخطوط الحمراء!
كل هذا صحيح وتؤكده الأحداث.

ولكن صحيح أيضاً أننا سقطنا في الفخاخ بسبب قصر نظرنا وكان لدينا قابلية وعدم مقاومة لما يراد لنا من تقهقر، أي أننا ساعدنا الآخر كي يبلغ الأهداف التي هي ضدنا وليست في صالحنا. بل إن التآمر الذاتي أشد بأساً من تآمر الآخر. وكل نجاحات الخصوم حجماً وقيمة هي من نتاج تآمرنا على ذاتنا.
لذلك فأول الطريق للخلاص من التآمر المزدوج وتداعياته العاصفة هو التوقف عن التآمر الذاتي أولاً.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

التآمر المزدوج التآمر المزدوج



GMT 09:12 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

الخضرة والماء والوجه الحسن

GMT 09:08 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

اللبنانيّون وقد طُردوا إلى... الطبيعة!

GMT 09:04 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

الضوء الأخضر للإرهاب

GMT 08:57 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

تايوان... «أوكرانيا الصين»!

GMT 08:52 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

أصوات العرب: جوّال الأرض

GMT 11:50 2021 الثلاثاء ,26 تشرين الأول / أكتوبر

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 18:22 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر مع تنافر بين مركور وأورانوس

GMT 08:12 2017 الإثنين ,11 كانون الأول / ديسمبر

أويلرز يفوز على مونتريال في دوري هوكي الجليد

GMT 05:03 2017 الأربعاء ,27 أيلول / سبتمبر

شخص ملثم أضرم النار داخل مسجد فجر الاربعاء

GMT 17:08 2018 الإثنين ,08 تشرين الأول / أكتوبر

"المغرب اليوم" يكشف عن أجر "جون سينا" في" التجربة المكسيكية"

GMT 06:44 2018 الأربعاء ,26 أيلول / سبتمبر

"كالابريا" أحد كنوز إيطاليا الخفية عن أعين السائحين

GMT 01:14 2018 الإثنين ,03 أيلول / سبتمبر

مرتجي يؤكد استعداد الأهلي إلى "حدث تاريخي"

GMT 06:21 2018 الإثنين ,02 تموز / يوليو

أحلام تهتف باسم الملك وتُغني للراية الحمراء
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca