أبعاد أخرى لحادث وفاة الشابة حياة

الدار البيضاء اليوم  -

أبعاد أخرى لحادث وفاة الشابة حياة

بقلم - نور الدين مفتاح

تعقيد الملابسات لا يمنع من صعود الألم إلى الصدر في حادثة مقتل الشابة حياة. هي مأساة ساءلت الجميع، وستسائل مجتمعا يتحول بسرعة جنونية تقتل فعليا ورمزيا، والذي زاد من منسوب الألم والغضب في آن هو طريقة مقتل هذه الشابة التي كانت تتأهب لحرق حياة البؤس بمدينتها تطوان لاقتياد ضفة النجاة في نظرها شمال المضيق. ولذلك كان لابد أن ننتظر ردود فعل جامحة، وغضبا أسود، واحتجاجات غير محسوبة أحيانا. وبما أنه ليس كل منتظر مستساغاً، فقد وصل الأمر إلى حدود إيقاظ نوع جديد من السخط الجماهيري في ملعب لكرة القدم فيه عدد كبير من الجمهور التحفوا السواد ورفعوا شعارات صاخبة أثارت ردود فعل ليس لها من عنوان إلا الذهول.

إننا إزاء ظواهر جديدة حبلى بالأخطار، تطور في لوجستيك التهجير، تطور في مفهوم مغادرة الوطن وفي سلوك "الحراكة" الذين يصورون أنفسهم بالفيديو وهم يغادرون احتجاجا، تطور في النظرة للواقع والتعامل معه والتصور للدولة ولمفهوم الانتماء وللشعور بالهوية. إننا إزاء نوع من الكفر بالمشترك احتجاجاً على الإقصاء أو على عدم الاستفادة من الناتج الوطني، ولذلك، وجدنا أن جماهير ملعب تطوان رفعت شعارات لم تكن تخطر على بال أشد المتشائمين، وهي الهتاف بحياة دولة أخرى هي إسبانيا! شيء لا يصدق ولكنه حصل، وكأن هذه الجماهير الغاضبة تلصق الصوت بصورة الهروب في "قوارب الموت" السريعة وتعيد معنى الحديث الشريف أن كاد الفقر أن يكون كفرا (بالوطن).

إن المتيمين بحب الوطن مهما جار عليهم لا يمكن أن يستسيغوا هذا الاستسهال في التفريط في نخوة الانتماء، إلا أن البعض لا يمهل التفكير حتى يعطي فرصة النظر في ما خفي وراء الاندفاع، فهل يمكن أن نحاسب شبابا عفويا غاضبا محمولا على عواطفه المتوترة كما نحاسب خصما سياسيا؟ سيكون هذا تجنيا ثانيا على مواطنين كان الله في عونهم وهم يعيشون هشاشة مكعبة تشغيلية وتعليمية وقيمية. مثل هؤلاء من يجب أن يكون الوطن بهم غفوراً رحيما. مثل هؤلاء الذين انفجروا في الملعب لا يوجدون في تطوان وحدها، وهذا هو مكمن الفزع، بل إنهم في كل مكان حيث غابت الكرامة أو انسدت الآفاق أو أهينت الأمهات أو الأخوات، أو سرقت اعتمادات برامج اجتماعية، أو سطا بعض لصوص الشأن العام على حقوق الناس، فما بالك إذا قتلت واحدة منهم لأنها أرادت أن تخاطر في هجرة غير شرعية من أجل كفكفة دموع أمها وإخوتها، ولا يهم هل كان القتل خطأ أم لا.

إن الدولة لحد الآن تتعامل مع الاحتجاجات في 2018 كما كانت تتعامل معها في الثمانينيات والتسعينيات، وإن الحكومة وخبراء التواصل فيها لم يعد بإمكانهم أن يقنعوا ملايين الشباب بجدوى سياساتهم العمومية من أجل النهوض بالأوضاع الاجتماعية مهما رقصت الأرقام واستعملت وسائل الإعلام الرسمية. فاستقلالية الحركية الاجتماعية باندفاعيتها العفوية جعلت سلطة المتضررين من الخصاص الاجتماعي في موقع أقوى من أولئك الذين كانوا يمتلكون حصرية المعارضة أو التمثيل الحزبي والنقابي والمدني الذي تجد فيه الحكومة والدولة مفاوضاً ذا تمثيلية!

إن ما يشبه الفوضى الخلاقة التي تغمر البلاد أصبحت لها قاطرة افتراضية تؤثر على الواقع أكثر من أي قاطرة أخرى ملموسة، وهذا هو الذي يجعل اليوم الحواشي متساوية مع المراكز والجهات مع العواصم والقرى مع المدن… كل شيء يغلي يصبح على السطح، والاعتقاد الرسمي الخاطئ هو أن الزجر الإلكتروني أو التخوين أو الحلول الأمنية ستحد من هذا الهيجان في التعبير عن الحرمان وهذا الانفجار الاحتجاجي، الذي تكون له دائما انزلاقات هي الاستثناء وليس القاعدة.

إن دائرة المشروع في الاحتجاجات لابد أن تتوسع، ولغة مخاطبة المواطنين لابد أن تتغير، وإلا سنعمق الإحساس الحالي بأن جزءا من الدولة لا علاقة له بجزء من المواطنين، فكل يغني على ليلاه، ولابد أن ننكب على الجوهر بدل الانسياق وراء بضعة تجاوزات تعبيرية هنا وانزياحات كاريكاتورية هناك، إن كل من يخاف على استقرار البلاد لابد أن يركز على أعطاب المغرب البنيوية وعلى هذا الفشل في الميادين الحيوية الذي أدى ثمنه السواد الأعظم من الشعب، فيما ازداد جزء كبير من الأثرياء ومن الفاسدين غنى ونفوذا. إن الحقد الاجتماعي في الغالب ليس وليد سوء تربية أو أزمة قيم، ولكنه وليد الفوارق الصارخة وآلام الخصاص، فكيف لا نضع الأصبع على المأساة التي تجعل مواطنين مغاربة يقبلون على مخاطرة "الحريكـ"، ونشير إلى مافيات تهريب البشر فقط؟ إن أكبر زبون لهذه المافيات هو بالضبط اللاعدالة الاجتماعية عندما تضرب أطنابها في مدينة أو قرية وتضرب معها أحلام الفقراء.

إن الحل الوحيد في المغرب هو ألا نستمر في هذه المفارقة: جزء من الذين هم عنوان للأزمة الخانقة التي يعيشها الملايين هم الذين تناط بهم المسؤوليات لحل هذه الأزمة! إن ما يقومون به ببساطة يشبه من يضع حواجز تخفيف السرعة في الطريق السيار، وبالتالي فالمأساة والملهاة سيان ورحم الله حياة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أبعاد أخرى لحادث وفاة الشابة حياة أبعاد أخرى لحادث وفاة الشابة حياة



GMT 15:52 2021 الثلاثاء ,16 آذار/ مارس

بايدن في البيت الأبيض

GMT 00:03 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

إذا كانت إيران حريصة على السنّة…

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يطرد المدعي العام

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

نَموت في المجاري ونخطىء في توزيع الجثث!

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

فى واشنطن: لا أصدقاء يوثق بهم!

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة

GMT 13:52 2016 الأحد ,20 آذار/ مارس

كريم طبيعي مزيل لرائحة العرق

GMT 08:47 2016 الإثنين ,11 كانون الثاني / يناير

البامية للوقاية من الأمراض المستعصية والاكتئاب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca