رسائل شارع محمد الخامس

الدار البيضاء اليوم  -

رسائل شارع محمد الخامس

توفيق بو عشرين

من وسط العاصمة، اليوم الأحد، صعدت صرخة احتجاج قوية إلى مكتب الأمين العام للأمم المتحدة في المبنى الزجاجي في نيويورك.

مئات الآلاف من المغاربة حجوا إلى شارع محمد الخامس، اليوم، للتعبير التلقائي عن تشبثهم بقطعة من جغرافيا المغرب اسمها الصحراء، وللتعبير عن غضبهم مما قاله بان كي مون، أثناء زيارته لمخيمات اللاجئين في تيندوف… الذين خرجوا، أو الذين لم يخرجوا، اليوم، إلى تظاهرة الرباط، شعروا بإهانة كرامتهم الوطنية لأن موظفا كوريا، من رتبة أمين عام للأمم المتحدة، تخلى عن اللباقة الدبلوماسية، وحياد الوسيط، وأصبح، تحت ضغط الجزائر وجبهة البوليساريو، طرفا في نزاع إقليمي معقد لن يحله هو، ولا غيره في السنوات القليلة المقبلة.
كانت هذه أسباب نزول أكثر من مليوني مغربي رافعين الأعلام الوطنية، ومرددين أناشيد المسيرة الخضراء، أما عن الذين نزلوا بشكل عفوي وتلقائي، أو منظم ومخطط له، إلى الشارع، اليوم، للتعبير عن آرائهم، فلا بد من إبداء ثلاث ملاحظات سريعة على هذه المبادرة:
أولا: هذه أول مرة تنزل فيها مسيرة مليونية إلى الشارع المغربي من أجل الصحراء. وكان المغاربة في السابق قد نزلوا في تظاهرات مماثلة من أجل فلسطين، أو العراق أو لبنان، أو من أجل الإصلاحات الدستورية والسياسية (20 فبراير)، لكن من أجل الصحراء لم يخرج الناس بالكثافة، التي رأيتها، اليوم، في شارع محمد الخامس للتعبير عن وقوف الشعب خلف الدولة ورمز وحدتها، الملك محمد السادس، من أجل الدفاع عن الصحراء، والدماء التي سالت على رمالها، والتضحيات الجسام، التي قدمها المغاربة، من الشمال إلى الجنوب لاسترجاع هذه الأرض وتنميتها، ودمجها في النسيج الوطني.

سيقول قائل إن وزارة الداخلية جندت العمال والباشوات والقياد والمقدمين والشيوخ من أجل جمع الناس وتعبئتهم، وتوفير اللوجستيك لهم للسفر إلى العاصمة، وأقول بالتجربة والخبرة إن هذا صحيح، لكنه لا يفسر نجاح تظاهرة اليوم. إن ما يفسر تلك الروح التي دفعت مئات الآلاف إلى قطع مئات الكيلومترات للحضور إلى قلب العاصمة اليوم، هي الكرامة الوطنية، التي شعرت بالإهانة من تصرف بان كي مون. والذي يفسر خروج المرأة والرجل والطفل والشيخ والعجوز، وتكبد أعباء السفر ومشقة الانتقال من كلميم، أو تزنيت، أو الحسيمة، أو مداشر خنفيرة، أو فيافي أزيلال، أو واحات العيون، والداخلة إلى الرباط، هو إحساس الناس بالخطر على قضية الصحراء، التي ترسخت في الوجدان الوطني، وأصبحت جزءا من هوية المغربي، بغض النظر عن اتفاقه أو اختلافه مع توجهات الحكم وسياسات الحكومة. وكان هذا أكبر مكسب حققه المغرب في هذه القضية، التي راكمنا غير قليل من الأخطاء في تدبيرها على مدى نصف قرن من الزمن.
ثانيا: الذين رأيتهم في الشارع، اليوم مغاربة من كل الأعمار، ومن الجنسين، ومن كل الأعراق، ومن كل المناطق، والمدن والبوادي المغربية، كان قاسمهم المشترك الانتماء الوطني، والعلم الأحمر، الذي حملوه في قلوبهم قبل أن تحمله سواعدهم.

قاسمهم المشترك الثاني هو انتماء أغلبيتهم الساحقة إلى الطبقة الشعبية، تعرفهم من لباسهم وسحناتهم، ونوع الأحذية، التي يضعون فيها أرجلهم، وطريقة تعبيرهم التلقائية عن مشاعرهم، وهذا معناه أن فقرهم وتهميشهم وحرمانهم لم يمنعهم من الانخراط في معركة الوطن، ولم تمنعهم قلة ذات اليد من التطوع لحمل العلم والدفاع عنه. وهذا يدل على أن الفقر لم يخلق الكراهية في نفوسهم، وأن الحرمان لم يجعلهم يكفرون بالوطن. لكن هذا يجب أن يوقظ الدولة من سباتها، ويدفع المسؤولين إلى الانتباه إلى الشريحة العريضة، التي لا تتصرف مع الوطن بآلة الحساب calculatrice كما تفعل جل النخب، للأسف الشديد، خصوصا تلك المستفيدة من اقتصاد الحرب في الصحراء، أو التي تبيع الولاء بالمنصب والدرهم والامتياز في الرباط.

لقد أعطى البسطاء درسا كبيرا، اليوم للبرجوازية المغربية، التي تابع جلها المسيرة على التويتر وفايسبوك، كما أعطوا درسا للجماعات المعارضة، التي لا تفرق بين معارضة النظام ونصرة القضايا العادلة للأمة.
ثالثا: الحماس والغضب، والمشاعر الوطنية، التي تفجرت في شارع محمد الخامس،اليوم، يجب أن تضعها الدبلوماسية المغربية حلقة في أذنها، وأن تعرف الخارجية وموظفوها ماذا تعني القضية الوطنية بالنسبة إلى المغاربة، وإلى أي حد أصبح مستقبل النظام مرتبطا بملف الصحراء، والاستقرار مرتبط بربح رهان هذا الملف (تمثل الصحراء 63 في المائة من مجموع التراب المغربي، واستشهد فوق رمالها آلاف الجنود المغاربة في الحرب التي دامت أكثر من 15 سنة، أما حجم الأموال التي صرفها المغرب في الصحراء فتقدر بملايير الدولارات).
لم يعد الخطأ مسموحا به في تدبير هذا الملف الحساس، ولا مكان للارتجال في هذه القضية، التي تمر بمرحلة صعبة للغاية، ومن غير المقبول أن تستأثر حلقة ضيقة من صناع القرار بإدارة ملف وطني ومصيري يهم كل بيت في المغرب.
مسيرة الرباط، اليوم، كانت مكملة للمسيرة الخضراء، وعليها أن تكون الإبرة، التي توقظ الجسم المغربي الغافل عن المخاطر الحقيقية، التي تتربص به. ولهذا يجب تحصين الوحدة الوطنية من التفكك، وحماية الخيار الديمقراطي من اللعب غير النظيف، ومواصلة مسلسل الإصلاحات العميقة للدولة حتى تنتج القوة الحقيقية في الداخل والخارج. رسالة تظاهرة الرباط، إذن، لم تكن موجهة إلى مكتب الأمين العام للأمم المتحدة فحسب، بل كانت وجهتها مكاتب المسؤولين المغاربة أيضا.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

رسائل شارع محمد الخامس رسائل شارع محمد الخامس



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 12:18 2019 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تعرف لقاءً مهماً أو معاودة لقاء يترك أثراً لديك

GMT 19:14 2019 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

يبدأ الشهر بالتخلص من بعض الحساسيات والنعرات

GMT 11:40 2019 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تساعدك الحظوظ لطرح الأفكار وللمشاركة في مختلف الندوات

GMT 17:27 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحالفك الحظ في الايام الأولى من الشهر

GMT 20:11 2019 الأربعاء ,21 آب / أغسطس

تجنب الخيبات والارتباك وحافظ على رباطة جأشك

GMT 19:18 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحاول أحد الزملاء أن يوقعك في مؤامرة خطيرة

GMT 17:59 2019 الثلاثاء ,23 تموز / يوليو

تستاء من عدم تجاوب شخص تصبو إليه

GMT 11:31 2019 الجمعة ,29 آذار/ مارس

منع جمهور الرجاء من رفع "تيفو" أمام الترجي

GMT 08:41 2019 الأربعاء ,23 كانون الثاني / يناير

تفاصيل جديدة وصادمة في حادث قتل الطفلة "إخلاص" في ميضار

GMT 06:39 2018 الجمعة ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

"بيكوربونات الصودا" حل طبيعي للتخفيف من كابوس الشعر الدهني
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca