جدل صحي رغم كل شيء

الدار البيضاء اليوم  -

جدل صحي رغم كل شيء

بقلم - توفيق بو عشرين

بدأت بعض الأصوات المحافظة تتبرم من قرار الملك محمد السادس إدخال المرأة المغربية إلى بيت العدول، وتوسيع مجال توثيق العقود والمعاملات ليشمل المرأة، وألا تبقى هذه المهنة حكرا على الرجال، وذلك لاستكمال مدونة حقوق المرأة، ولكي لا يبقى الجنس الناعم خارج قانون المناصفة ومنظومة الحقوق جميعها، تطبيقا لمبادئ المساواة، وامتثالا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «النساء شقائق الرجال».
الأصوات المعارضة لهذا القرار قليلة، ومبرراتها تقول إن هذا «مخالف للشرع» بتأويلها السلفي لما هو داخل الشرع وما هو خارجه، وتزيد في منسوب الجدل وتقول: ‘‘ولماذا لا تدخلون المرأة أيضا إلى حيّز الحق في ولاية العهد التي يقصرها الدستور على الذكور من سلالة الملك؟ ولماذا لا تدخلون المرأة إلى مجال الإمامة في الصلاة والخطبة في الجمعة؟’’، وكل هذا لإحراج من يدافع عن مبدأ المساواة، ولهؤلاء نقول: هذا منطق حجاجي وليس إقناعيا، فلو تشكلت حركة نسوية تطالب بحق بنات الملك في ولاية العهد هل كنتم ستنضمون إليها؟ ومع ذلك، فهذا أمر مرتبط بثقافة المجتمع وليس فقط بإرادة الملك، وسيأتي يوم تدخل فيه المرأة إلى قبة العرش، كما حدث في إسبانيا أخيرا، حيث جرى تعديل الدستور، وأصبحت ولية عهد الملك فيليبي السادس هي ابنته إلينور.. التأخر في توسيع مبدأ المناصفة لا يضعف مسار تحديث الفكر الديني الذي يحتاج إليه مجتمعنا، بغض النظر عن أي حسابات سياسية أخرى.
نحن مجتمع قبل أن تكون المرأة مستشارة للملك ووزيرة وقاضية وعالمة في الجامعة وسفيرة ومديرة ووكيلة للملك وطبيبة وربانة طائرة وأستاذة… فكيف لا نقبل بها «عدلة» توثق عقود النكاح والطلاق، وتكتب شواهد الإراثة، وتشهد على البيع والشراء، وغيرها من المعاملات البسيطة، بدعوى أن هناك آية في القرآن وفي سورة البقرة بالتحديد تقول: “وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ” (الآية 282). التفسير الحرفي المسنود بثقافة الماضي، حيث كانت المرأة شبه غائبة عن جل وظائف الدولة والمجتمع، يقول إن المرأة معرضة للضلال، وإن القرآن اشترط امرأتين مقابل رجل واحد بمبرر النسيان أو القصور الفطري في ابنة آدم التي لا تتساوى مع الرجل من حيث الجنس، لكن التفسير المقاصدي للنص والفهم التجديدي لمراد الشارع يقول إن القرآن الكريم لا يميز بين رجل وامرأة في المقدرات ولا في الطبيعة ولا في الخلقة، وإن الآية هنا تقرر واقعا ولا تخط حكما. النص هنا تحدث عن واقع كان قائما زمن نزول القرآن، حيث كانت المرأة في الجزيرة العربية ناقصة خبرة واطلاع وتجربة، بل كانت تتعرض للوأد حية في التراب، فاشترط القرآن شاهدتين امرأتين مكان رجل واحد، ليس تمييزا لها عن أخيها الرجل، ولكن إقرارا بواقع قائم تزول أحكامه بزوال مبرراته.
إذا كان الخليفة الثاني، عمر بن الخطاب، في القرن الأول للإسلام، قد عين محتسبة للسوق، تقضي بين الناس في ما تنازعوا فيه في ما يسمى «قضاء عمليا»، ولم يعترض عليه أحد من صحابة رسول الله، فكيف ينازع الخلف اليوم، بعد 14 قرنا، في تعيين المرأة عدلا يقوم بهمة أقل شأنا من محتسبة كانت تحكم بين المسلمين في معاملاتهم؟
المحافظة في الفكر والسياسة ليست جريمة، وفي جميع المجتمعات هناك «محافظون» وهناك «تقدميون»، هناك «سلفيون» وهناك «مجددون»، هناك أناس يريدون الحفاظ على الأمر الواقع لأسباب عدة، ثقافية أو دينية أو مصلحية أو طبقية، وهناك أناس يريدون تغيير الواقع لأسباب مادية أو دينية أو فكرية، لكن المجتمعات الحية هي التي تنجح في إدارة الحوار بين المحافظين والتقدميين، بين دعاة الحفاظ على القديم والمبشرين بالجديد، ثم تضع آليات ديمقراطية ومؤسساتية لحسم الخلاف في القضايا التي تحتاج إلى حسم قانوني أو تنظيمي، فيما يبقى الخلاف قائما في ما لا يحتاج إلى تدخل المشرع، ففي النهاية، الدولة الحديثة تدير الاختلاف بين مواطنيها، ولا تدير الإجماع بين رعاياها.
الذين يعارضون دخول المرأة إلى مهنة «العدول» يعتبرون أن هذا المخلوق «ناقص»، أو، في أفضل الأحوال، «ضعيف»، وله وضع خاص يمنعه من ممارسة مواطنته كاملة، وهذا الفهم له جذور اجتماعية وثقافية، قبل أن تكون دينية، وما النصوص التي تساق لتبرير «إقصاء المرأة من عدد من المهن» إلا غطاء فقهي لثقافة وأعراف وتقاليد تربى عليها الرجال، ولم تتح لهم الفرصة لمساءلتها أو مراجعتها أو عرضها على فهم تجديدي للإسلام، أو تأويل معاصر للدين.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

جدل صحي رغم كل شيء جدل صحي رغم كل شيء



GMT 15:52 2021 الثلاثاء ,16 آذار/ مارس

بايدن في البيت الأبيض

GMT 00:03 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

إذا كانت إيران حريصة على السنّة…

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يطرد المدعي العام

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

نَموت في المجاري ونخطىء في توزيع الجثث!

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

فى واشنطن: لا أصدقاء يوثق بهم!

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة

GMT 13:52 2016 الأحد ,20 آذار/ مارس

كريم طبيعي مزيل لرائحة العرق

GMT 08:47 2016 الإثنين ,11 كانون الثاني / يناير

البامية للوقاية من الأمراض المستعصية والاكتئاب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca