أبطال بلا مجد

الدار البيضاء اليوم  -

أبطال بلا مجد

بقلم - توفيق بو عشرين

جاءني صوتها مخنوقا عبر الهاتف، لم تستطع أن تقاوم البكاء وحتى النحيب، ابنها البالغ من العمر 25 سنة قتل في العراق وهو يتصور أنه يجاهد في صفوف داعش. إنه بطل دون مجد، ومقاتل شجاع في المعركة الخطأ. حاولت أن أهدئ الأم المكلومة التي تريد أن تقاسم أمهات أخريات قصتها، حتى ينقذن أبناءهن من مصير مماثل. قلت لها: «احكي القصة من البداية لأفهم الموضوع»، فقالت: إنه شاب متعلم كان على أبواب الزواج. عاش في أسرة من شمال المملكة لا ينقصها شيء.

الأب كان استقلاليا يحلم ‘‘بمغربنا وطننا روحي فداه’’… والأم من أسرة التعليم، كان أولادها في قمة اهتماماتها. كبر الابن في أسرة من ثلاثة إخوة هو أصغرهم (25 سنة)، درس في مدارس البعثة الإسبانية، وحصل على عمل بسهولة في شركة دولية في شمال المملكة. لم تكن أسرته بعيدة عن التدين المغربي الوسطي، ولا هو كانت تظهر عليه علامات التشدد أو التطرف. كان شابا مقبلا على الحياة.. ‘‘ابن الوقت’’، مولعا بتكنولوجيا التواصل الحديثة. كان يقضي ساعات طويلة أمام النيت ومواقعه، وعالمه الافتراضي الذي أضحى أهم من الحقيقي في حياته. لم تفطن الأسرة إلى أن الابن يتعرض لغسيل دماغ حقيقي، وأن هناك من يجره إلى عالم الجهاد العالمي، حيث الصورة والفيديو يعوضان الكتاب، والفتوى تحل محل القناعة، وإغراء الحرب يتغلب على السعي نحو السلم.

الشاب إلياس، الذي قضى نحبه في صفوف مقاتلي البغدادي قبل شهرين تحت قصف الطائرات الأمريكية من الجو وميلشيات الحشد الشعبي على الأرض، لم يستقطب إلى داعش عن طريق المسجد أو الخلايا السرية أو جلسات الوعظ والإرشاد التقليدية، أو من قبل دعاة أو شيوخ. جرى اصطياد الشاب المغربي من وراء الشاشة في الشبكة العنكبوتية، حيث يشتغل جهاديو النيت في الفايسبوك وتويتر واليوتوب ومواقع التواصل الاجتماعي الأخرى، التي أصبحت الأرض الحقيقية للمعركة. هنا جرى غسل دماغ إلياس، أولا بعرض فيديوهات معاناة السوريين والسوريات ضحايا بربرية الأسد، في محاولة لإثارة مشاعر إنسانية طبيعية لدى كل فرد، ثم منها انتقل الخطاب الدعائي إلى عرض معاناة «أهل السنة» مع عصابات الشيعة الاثناعشرية والعلويين (على ما بينهما من فروق كبيرة)، المدعومين من إيران التي تقتل النساء والأطفال، حسب زعمهم، ومن إثارة الحس المذهبي إلى اللعب على الحس الديني الأشمل، وصولا إلى تجييش عقل الشاب ضد عدوان أمريكا والغرب الكافر، الذي يحتقر المسلمين، ويحتل أرضهم، ويستبيح كرامتهم، ويقسم وحدتهم… ما الحل إذن؟ الحل الأول هو مبايعة دولة الخلافة التي انقرضت منذ قرن، ومحاولة تصوير شكل تاريخي لم يكن أبدا نموذجيا لحكم المسلمين إلى يوتوبيا، ثم ماذا بعد البيعة؟ الجهاد في سبيل الله دون تدقيق ولا فهم. الجهاد هنا يصبح صفقة يحصل بها المسلم على درجة الكمال، وهي الموت في سبيل الله، والذهاب إلى الجنة مباشرة بلا حساب ولا عقاب ولا سؤال ولا جواب… هكذا وجد الشاب التطواني نفسه على متن الخطوط الجوية التركية في طريقه إلى اسطنبول، ومنها إلى الحدود السورية، وبقية القصة معروفة. غاب لأسابيع، وبعدها جاء صوته من وراء الهاتف لأمه، يقول لها: ‘‘ادعي معي أن يقبلني الله في صفوف الشهداء’’.. كيف؟ ومتى؟ ولماذا؟ لا جواب. الابن خرج من عالم ودخل عالما آخر، وما هي إلا سنة حتى قتل في ظروف لا يعلمها أحد. مات وترك أما تبكيه ما بقي في عمرها من عمر.

شاب في مقتبل العمر، حتى وإن لم يكن فقيرا يائسا، فإنه، كباقي الشباب في سنه، يحلم بمشروع كبير مثل شباب الستينات والسبعينات، الذين انتموا إلى اليسار الراديكالي الذي كان يحلم بتغيير العالم قبل أن يفهمه. هذا الشاب، الذي هاجر إلى داعش، كان يتصور أن حمل الكلاشنكوف والانضمام إلى جيش الرب هو الطريق السهل إلى تحقيق ذاته، والانخراط في «اليوتوبيا» العالمية للجهاد، حيث يتم توظيف مشاكل حقيقية للمسلمين لاقتراح حلول سهلة، لكنها حلول انتحارية مدمرة.. إنها لعبة أمم جديدة يصنعها الكبار ويموت فيها الصغار…

ومادام العالم الأرضي لم تعد فيه أهداف كبرى يسعى إليها الشبان الحالمون بطبعهم، فسينتقلون إلى العالم الآخر ليحققوا الطموح الأكبر، تماماً كما كان يحلم الشيوعيون بالجنة فوق الأرض.. إلياس وأصدقاؤه يحلمون بالجنة في السماء.

هؤلاء الشباب لم يقرؤوا كتابا واحدا عن الإسلام أو الجهاد ومقاصده، ومع ذلك وضعوا أرواحهم فوق أكفهم، وسافروا إلى أرض ليست أرضهم، وماتوا قبل أن يفكروا في فهم العالم قبل تغييره، ولا اهتموا بفك تعقيداته قبل الدخول إليه.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أبطال بلا مجد أبطال بلا مجد



GMT 15:52 2021 الثلاثاء ,16 آذار/ مارس

بايدن في البيت الأبيض

GMT 00:03 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

إذا كانت إيران حريصة على السنّة…

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يطرد المدعي العام

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

نَموت في المجاري ونخطىء في توزيع الجثث!

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

فى واشنطن: لا أصدقاء يوثق بهم!

GMT 20:11 2019 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

تجنب الخيبات والارتباك وحافظ على رباطة جأشك

GMT 09:26 2018 الثلاثاء ,26 حزيران / يونيو

إعادة سلحفاة نادرة إلى مياه خليج السويس بعد علاجها

GMT 01:32 2014 الأحد ,27 تموز / يوليو

طريقه عمل مفركة البطاطا

GMT 08:20 2018 الإثنين ,29 كانون الثاني / يناير

منزل بريطاني على طريقة حديقة حيوان يثير الإعجاب في لندن

GMT 06:11 2018 الخميس ,18 كانون الثاني / يناير

أسهل طريقة لإعداد مكياج رائع لجذب الزوج

GMT 00:03 2017 الإثنين ,25 كانون الأول / ديسمبر

قرار بخصوص مشروع ملكي مغربي يُربك حسابات إلياس العماري

GMT 13:59 2017 السبت ,16 كانون الأول / ديسمبر

هجرة "النجوم" شرًا لا بد منه

GMT 04:24 2017 السبت ,09 كانون الأول / ديسمبر

السجن 10 سنوات للجهادي المرتبط بمهاجمة "مانشستر أريينا"

GMT 16:31 2017 الثلاثاء ,05 كانون الأول / ديسمبر

فنانة صاعدة تهدد مخرج مغربي بـ"فيديو إباحي"

GMT 10:51 2017 الإثنين ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الفنان أمير كرارة يفاجئ المعجبين بإطلالة مختلفة تمامًا

GMT 22:31 2015 الإثنين ,09 آذار/ مارس

الأزرق والأخضر أبرز ألوان المطابخ في 2015
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca