هموم عربية…

الدار البيضاء اليوم  -

هموم عربية…

بقلم - توفيق بو عشرين

التقيته هذه السنة في لندن على جادة «نايت بريدج». كان مثقلا بهموم كثيرة وهو العراقي القادم من بلاد الرافدين.. بلاد ما عادت قادرة على تحمل غنى مكوناتها العرقية والدينية والقومية، فراحت تتخفف منها، ساعة بالقتل، وساعة بالتهجير، والآن بالانفصال. بلاد لم تعد قادرة على مواصلة مسار حضاري عريق بناه الأولون، ولم يصل منه شيء إلى الجيل الجديد.

بادرته بالسؤال عن استفتاء تقرير المصير الذي أعلنه الأكراد في 25 شتنبر المقبل، وهل هو موعد نهائي أم مجرد ورقة يضغط بها الأكراد على الحكومة المركزية في بغداد لتحصيل فوائد جديدة، فقال: «أظنه موعدا نهائيا هذه المرة. الأكراد يريدون أن يقبضوا ثمن الدماء التي سالت منهم في الحرب على داعش. فحسب مسعود برزاني، خسرت قوات البشمركة أكثر من 1700 مقاتل في حرب داعش وأكثر من 10000 جريح، وحسب آخرين، فإن العدد أقل من هذا، لكن، في كل الأحوال، الأكراد انتقلوا من الحكم الذاتي إلى الحكم الفدرالي، والآن هم على أبواب إعلان دولتهم التي تأخر إعلانها لأسباب تكتيكية، فمن جهة، الكرد اليوم لهم جيش وعلم وأرض وشعب وحكومة وبرلمان وقوانين خاصة، وفوق هذا حلم سعوا إليه منذ زمن، ثم إن العراق اليوم لم يعد يغري أحدا بالبقاء فيه، سواء كفرد أو جماعة أو قومية. هو غارق في الفساد والفوضى والعنف والطائفية. ألم تَر كيف سيطرت داعش على ثلث العراق في ساعات، وكيف انهار جيش المالكي وهرب تاركا وراءه أسلحة بمليارات الدولارات أمام ميلشيات دينية مدعومة ببقايا البعث الذي تشرد بعد سقوط نظام صدام؟».

رجعت لأسأل صديقي العراقي، المطلع على أحوال بلاده: «ألن يفتح استقلال الأكراد الباب مشرعا لإعادة النظر في خرائط المنطقة كلها؟». رد في شبه يأس من أي بادرة أمل: «خريطة المنطقة تعج بالفوضى. كل الغرباء يضعون بصماتهم عليها في غياب أهل الدار. أما إسرائيل فهي المستفيد الأول من كل ما يجري، فيكفي أن تعرف أنها أول من أيد استفتاء الأكراد، وغدا ستكون أول من يفتح لها سفارة في أربيل، كما فعلت في جنوب السودان… العالم العربي صار ساحة مستباحة بلا حارس ولا باب، ولا حتى أعراف للدخول والخروج».

«من الخاسر الأول في بلاد الرافدين؟»، سألت صديقي، فرد بسرعة: «سنة العراق الذين هربوا من نار ميلشيات المالكي الطائفية، إلى جحيم البغدادي المذهبية، والنتيجة أن مدنهم دمرت، ومن لم يُقتل من أهلهم هاجر في أرض الله التي ضاقت بهم. صار العراقيون هم يهود التاريخ المحكوم عليهم بالشتات».

سألته: «ما الفرق بين الحشد الشعبي وداعش التي اندحرت في الأشهر الأخيرة؟». ضحك من السؤال وقال: «لا فرق سوى أن الحشد الشعبي له غطاء سياسي ويقوم بأعمال وحشية بعيدا عن الكاميرات، وداعش لا تملك غطاء سياسيا وتنقل بربريتها على الهواء مباشرة، غير هذا، فإن كليهما ينطلق من عقيدة قتالية إرهابية… أرض الإسلام اليوم أصبحت تشبه مجسما في متحف يحكي قصص القرون الوسطى التي لم تعشها أجيال اليوم».

قبل أن نقفل ملف العراق وأهواله ودمائه قلت لصديقي: «ماذا لو كانت فلوريدا سنة 2000 قد أعطت بضعة أصوات لآل غور، هل كنا سنصل إلى ما نحن فيه اليوم؟». رد باستغراب: «ماذا تقصد؟». قلت: «لنفترض أن الديمقراطيين كانوا قد فازوا في انتخابات نونبر 2000 الرئاسية، وذهبت الرئاسة إلى آل غور عوض جورج بوش الصغير، الذي ظل فوزه معلقا لأيام على إعادة فرز الأصوات في فلوريدا… ربما ما كان لآل غور أن يوقف هجمات 11 شتنبر 2001 التي تبنتها القاعدة، لكن، بالتأكيد، ما كانت الإدارة الأمريكية ستتصرف في ظل ديمقراطي عاقل مثلما تصرفت إبان عهد جمهوري متعصب، وما كانت الحرب على الإرهاب ستكون صليبية، ولا كانت نقطة ارتكازها هي العراق والإطاحة بنظامه التي فتحت المنطقة على كل هذه الفوضى. كان آل غور سيتعقب تنظيم القاعدة، لكنه لن يقول ‘‘من ليس معنا فهو ضدنا’’. كان الديمقراطي سيحرك جيشه للقضاء على الإرهاب، لكنه لن يفتح معتقل غوانتنامو، ولن يحتل العراق، ولن يحتقر الأمم المتحدة، ولن يلقي بالقانون الدولي إلى المزبلة، إن الأمريكيين يصوتون لرئيس يحكم العالم وليس بلدهم فقط، ويرتكب حماقات يدفع الآخرون فواتيرها، كما يحصل اليوم مع تاجر العقارات دونالد ترامب»… علق صديقي: «ما تقوله صحيح، لكن، منذ قرون، لم يكن أبدا صوت نيويورك أو باريس أو روما أو لندن هو صوت بيروت أو مراكش أو القاهرة أو باماكو… دائما كان العالم مقسوما بين أقوياء وضعفاء». قلت: «هذا صحيح، لكن لم تكن أبدا الإمبراطوريات القديمة والجديدة تسيطر على العالم كما هو حاصل اليوم بفضل تطور التكنولوجيا المدنية والعسكرية، وأبدا لم يكن احتكار القوة بهذا الفرق الشاسع بين الشمال والجنوب. كان، مع ذلك، هناك توازن يختل، لكنه لا ينهار كما هو حاصل اليوم… إننا أمام اختلال العالم le dérèglement du monde، على حد وصف أمين معلوف في كتاب شهير له… من هنا يجب أن تنطلق عملية إعادة التفكير في قضايا الإرهاب والفوضى وانهيار الدول وخراب البيئة، وانتشار الجيل الجديد من الحروب، والجيل الجديد من النقمة والكراهية، وغيرها من مظاهر العطب في عالم يسير بسرعتين، وينتج طبقات لا جسور بينها، وشعوبا لا تعاون بينها، وتوازنات لا عدل بينها، وقرارات لا ديمقراطية فيها».

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هموم عربية… هموم عربية…



GMT 15:52 2021 الثلاثاء ,16 آذار/ مارس

بايدن في البيت الأبيض

GMT 00:03 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

إذا كانت إيران حريصة على السنّة…

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يطرد المدعي العام

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

نَموت في المجاري ونخطىء في توزيع الجثث!

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

فى واشنطن: لا أصدقاء يوثق بهم!

GMT 12:18 2019 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تعرف لقاءً مهماً أو معاودة لقاء يترك أثراً لديك

GMT 19:14 2019 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

يبدأ الشهر بالتخلص من بعض الحساسيات والنعرات

GMT 11:40 2019 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تساعدك الحظوظ لطرح الأفكار وللمشاركة في مختلف الندوات

GMT 17:27 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحالفك الحظ في الايام الأولى من الشهر

GMT 20:11 2019 الأربعاء ,21 آب / أغسطس

تجنب الخيبات والارتباك وحافظ على رباطة جأشك

GMT 19:18 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحاول أحد الزملاء أن يوقعك في مؤامرة خطيرة

GMT 17:59 2019 الثلاثاء ,23 تموز / يوليو

تستاء من عدم تجاوب شخص تصبو إليه

GMT 11:31 2019 الجمعة ,29 آذار/ مارس

منع جمهور الرجاء من رفع "تيفو" أمام الترجي

GMT 08:41 2019 الأربعاء ,23 كانون الثاني / يناير

تفاصيل جديدة وصادمة في حادث قتل الطفلة "إخلاص" في ميضار

GMT 06:39 2018 الجمعة ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

"بيكوربونات الصودا" حل طبيعي للتخفيف من كابوس الشعر الدهني

GMT 00:42 2018 الأربعاء ,11 إبريل / نيسان

تعرف على أبرز صفات "أهل النار"

GMT 15:58 2018 الأحد ,08 إبريل / نيسان

"القرفة" لشعر صحي بلا مشاكل ولعلاج الصلع

GMT 11:49 2018 الإثنين ,02 إبريل / نيسان

توقيف صاحب ملهى ليلي معروف لإهانته رجل أمن

GMT 11:52 2018 السبت ,31 آذار/ مارس

"زيت الخردل" لشعر صحي ناعم بلا مشاكل
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca