دفــاعًا عن الدولـة

الدار البيضاء اليوم  -

دفــاعًا عن الدولـة

امحمد لقماني

لم يعد خافيًا على أي متتبع نبيه ما وصله مستوى تبخيس الدولة لدى فريق هام من النخبة السياسية المغربية، حيث باتت فكرة الدولتين تشكل جزءًا من الخطاب السياسي التحريضي بعد أن تواتر استحضارها، بمناسبة أو بدونها، بغير قليل من الخفة  ومن غياب الوعي الفكري والنظري بمفهوم الدولة وتمايزه عن مفهوم السلطة. غير أن هذا الخلط والتماهي في المفاهيم لا يقف في حدود البناء الخطابي، بل يقـود ، في غالب الأحيان، إلى استنتاجات مغلوطة ومنزلقات سياسية  تهدد  بنيان الدولة ووحدة المجتمع.

وتتناسل عن فكرة الدولتين توصيفات شتى بين دولة عميقة و دولة موازية و أخرى مخزنية، بل دولة داخل الدولة نفسها ! وهكذا حتى صار الجميع، من أصوليين وفوضويين، يشتهون جثة الدولة و يتفننون في شيطنتها  وإثقال كاهلها  بكل التهم والمساوئ وكأنها أصل الشر المستطير والنكبات كلها، غير آبهيـن إلى أن إسقاط الدولة هو مقدمة للفوضى المعممة وإعلان ميلاد نظام الطوائف والمذاهب و مجتمع الفتنة والانقسام. يقع هذا في وقت لا يتردد الناقمون على  الدولة في العيش في كنفها والاستفادة من مزايـاها و خدمـاتها، وتلك انتهازية مقيتـة: إنهم يأكلـون غلّتـها ويسبّـون ملّتها

والدولة الحديثة عقلانية بطبيعة وظائفها داخل المجتمع، ولا يمكن أن تكون شيئا آخر غير ذلك.وإذا لزم الأمر، سنُذكّر بالمبادئ الأولى في القانون الدستوري و علم السياسة حول مكونات الدولة من أرض وشعب وسلطة سياسية. على هذا، ففكرة الدولتين تعني، قيـاساً واستنتاجاً، وجود أرضين وشعبين وسلطتين سياسيتين !  وهو الاستنتاج القاتل الذي يسقط صاحبه في مغالطة نظرية فادحة يختلط فيها الموقف من الدولة بالموقف من النظام السياسي. لذلك، فالشجاعة السياسية تقتضي أن يتجه الناقمون على الدولة إلى مخاطبة النظام السياسي رأساً، بدل تعويم الخطاب وتسفيه الدولـة التي هي دولة الجميع وفوق الجميع.

وخلف هذا الموقف الملتبس من الدولة، تصطف جملة من الأسباب، ليس أقلها الخلط والمماهاة بين الدولة والسلطة: فنصاب الأولى سيادي ومؤسساتي يتصل بحقل البنى والمؤسسات.

أما نصاب السلطة فهو سياسيٌ تنافسي ينتمي إلى حقل الخيارات السياسية والبرنامجية، ومرتبط بتنازع المصالح والنوازع بين القوى الاجتماعية. الدولة كيان مؤسساتي جامع يدخل في حكم تكوينه الدستور والبرلمان و الحكومة والقضاء والجيش والإدارة والأحزاب والشعب والحدود...الخ، وهي من مقومات السيادة التي لا تستقيم دولة بدونها. في حين، السلطة هي تجسيد لحقل الصراع السياسي بين النخب و الفاعلين، تحكمه ضوابط قانونية وأخلاقية، وغايته الوصول إلى الحكم لتدبير شؤون الدولة والمجتمع.
 
المشكل يبدأ في عدم تقدير الكلفة السياسية الناتجة عن عدم رسم الحدود والفواصل بين المفهومين. فمثلاً، حين يعمد زعيم حزب سياسي أصولي إلى شحن أتباعه ومريديه بالعداء للدولة التي يصفها بالعميقة تارة وبالموازية تارة أخر، فإنما  يتوخى من وراء ذلك خلق الاعتقاد بالحاجة إلى دولة أخرى بمواصفات سيادية جديدة  وبشرعيات نقيضة للشرعيات المؤسسة للدولة العصرية. ولن يكلف المرء تفكيره عناء البحث في الأصول الفكرية للمشروع الأصولي الذي يتبنى أطروحة تفكيك الدولة وإسقاطها في شباك الجماعة الدينية على مثال ما حاول تجريبه تنظيم الإخوان في مصر، و التنظيمات الإرهابية كالقاعدة و داعش في مناطق أخرى من بلاد العرب والمسلمين.

وفي ثاني أسباب الالتباس في الموقف من الدولة، نجد ضعف استبطان فكرة الدولة نفسها و صعوبة تمثلها  وتوطينها في المخيال الجماعي و في النسيج الثقافي والنفسي. فالعقل السياسي الأصولي مثلا، متمردٌ على كل أشكال النمط المديني للدولة الحديثة بمقومات العصرية من قانون و سلطة ونظام واستقرار وتعايش وتقدم، وهو لا يزال مشدوداً إلى فكرة الولاء لدولة الخلافة التي تتجاوز الحدود الوطنية. لكن المغاربة وهم يستبطنون فكرة دولتهم، فإنما يستبطنون ذاتهم كجماعة سياسية مستقلة ومتميزة. ففي النهاية، الدولة ليست سوى تجسيدا للأمة السياسية التي تعاقد مواطنوها على الولاء لها  بعد أن فوضوا لها مهـام العنـاية والرعــاية والحمــاية.

ومع أن الدولة المغربية الحديثة لم يمرّ على تأسيسها سوى ستون سنة، وهي، تبدو، بمقياس الزمني السياسي في المجتمعات المماثلة، غير كافية، لكن واقع الحال يشهد على ما حققه تطورها من أشواط كبيرة على درب توطينها في النسيج المجتمعي، إذ بلغ البناء المؤسساتي للدولة المغربية درجةً من التحديث والعقلنة ما يستوجب تحصينه من كل محاولات الاستئثار الفئوي أو التجنيـد الإيديولوجي أو الاحتكار السياسي. و لا شك في أن محاولات تعطيل الدستور المغربي، وهو الذي تكثفت بداخله كل  معاني الحداثة السياسية والاجتماعية والثقافية، لخير دليل على حجم المقاومة الشرسة الذي تبديه القوى المحافظة أمام جميع إرادات تقعيد سلطة الدولة الحديثة والقيـام بوظائفها التنموية والتحديثية للمجتمع برمته.   

يجب التمييز، إذن، بين الموقف الملتبس من الدولة الناتج عن خلطٍ في الجهاز المفاهيمي والنظري  يضاف إليه واقع ضعف استبطان فكرة الدولة، وبين المواقف الإيديولوجية الواعية التي تخدم مشروعا سياسيا لا ينظر بعين الرضى لنموذج النظام في شكله الحالي، ويريد تغييره انطلاقا من تطويع  الدولة بأجهزتها وبآلياتها المادية و أدواتها الإيديولوجية، وهو تفكير ينزع عن الدولة صفة الحياد والتعالي والاستقلالية، و يجندها لخدمة مصالح جماعة دون غيرها. وهذا الموقف الرافض للولاء للدولة، يتولد عنه حكماً نزع صفة المواطنة كرابطة قانونية تعاقدية، والتي لا يمكن أن تقوم لها قائمة إلا داخل مجال الدولة، فحتى الأحزاب السياسية هي أحزاب الدولة ولا يمكن تصور اشتغالها خارج مجالها ما دام حقل السياسة هو قناة مرور رئيسية نحو احتلال مواقع المسؤولية العمومية داخل مؤسسات الدولة دون سواها. ما عدا ذلك، فأي فهم نقيض  إنما يشرعن للروابط العصبوية  التي تؤسس للولاء للجماعات التقليدية بدل الولاء للدولة، وحسبي إنه  مدخل للاحتراب الداخلي و خطر داهــم على وحدة وانسجام مكونات الاجتماع الوطنية.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

دفــاعًا عن الدولـة دفــاعًا عن الدولـة



GMT 01:00 2022 الإثنين ,14 آذار/ مارس

بعد أوكرانيا الصين وتايون

GMT 11:30 2021 الإثنين ,20 كانون الأول / ديسمبر

عطش.. وجوع.. وسيادة منقوصة

GMT 21:38 2021 الجمعة ,12 آذار/ مارس

التراجيديا اللبنانية .. وطن في خدمة الزعيم

GMT 07:46 2019 الأحد ,27 تشرين الأول / أكتوبر

مزوار: اذكروا أمواتكم بخير !

GMT 00:19 2019 السبت ,14 أيلول / سبتمبر

اليمن والحاجة لإعادة إعمار القيم

GMT 11:33 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

يَموت حقٌّ لا مقاومَ وراءَه

GMT 12:18 2019 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تعرف لقاءً مهماً أو معاودة لقاء يترك أثراً لديك

GMT 19:14 2019 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

يبدأ الشهر بالتخلص من بعض الحساسيات والنعرات

GMT 11:40 2019 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تساعدك الحظوظ لطرح الأفكار وللمشاركة في مختلف الندوات

GMT 17:27 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحالفك الحظ في الايام الأولى من الشهر

GMT 20:11 2019 الأربعاء ,21 آب / أغسطس

تجنب الخيبات والارتباك وحافظ على رباطة جأشك

GMT 19:18 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحاول أحد الزملاء أن يوقعك في مؤامرة خطيرة

GMT 17:59 2019 الثلاثاء ,23 تموز / يوليو

تستاء من عدم تجاوب شخص تصبو إليه

GMT 11:31 2019 الجمعة ,29 آذار/ مارس

منع جمهور الرجاء من رفع "تيفو" أمام الترجي

GMT 08:41 2019 الأربعاء ,23 كانون الثاني / يناير

تفاصيل جديدة وصادمة في حادث قتل الطفلة "إخلاص" في ميضار

GMT 06:39 2018 الجمعة ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

"بيكوربونات الصودا" حل طبيعي للتخفيف من كابوس الشعر الدهني
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca