ملهـاةُ الحكومة...مأساةُ السياسة

الدار البيضاء اليوم  -

ملهـاةُ الحكومةمأساةُ السياسة

بقلم - امحمد لقماني

آن لنا أن نستخلص مما يقع من تجاذبات بين الفاعلين السياسيين حول الغنيمة الحكومية، دروسًا و عبرا مما قد يسمح  في بناء علاقةٍ مفهوميةٍ بواقعٍ جديدٍ لم يكن للنخبة الحزبية عهدٌ به  قبل أن يداهمهم دستور جديد يضبط إيقاع هواجسهم المتهافتة ونوازعهم المنفلتة، ويضع حدًا للمزاجية  في السياسية،  و يرسم مسارًا عقلانيًا بديلًا عن ممارسةٍ سياسيةٍ عرجاءَ  كتلك التي توطّنت في عقول ونفوس أجيال بكاملها ، إلى أن أصبحت ذهنيةً سياسية معيقة، ترمي في كل أعطابها على واقعنا اليوم بغير قليل من الابتدال، وتمنع "هذه الذهنية" من النظر إلى أمور السلطة  في الواقعية التي هي من صميم شروط السياسة كما نشأت في مهدها وكما وضع أسسها روادها الأولون.

ولئن كانت السياسة بالتعريف هي مجال تنازع المصالح والنزعات بين مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية حول امتلاك و حيازة السلطة والثروة والاعتبار، فهو مما لا يضير  إذا جرت أطوار التنافس حولها  "أي السلطة" في إطار سلمي وشرعي  جرى الاتفاق والمواضعة عليه بموجب دستور يؤسس لعقلنة هذا النوع من التفاعلات داخل الحقل السياسي  والاجتماعي، في الحدود التي لا تزيغ عن جادة الواقعية السياسية والالتزام بأساسيات المشروع المجتمعي الجامع.

ففي النهاية، يظل هاجس تقاسم الثروة والسلطة هو من صميم الديناميات الدافعة و الحاكمة لمنطق التنافس والصراع  داخل حقل السياسة في جميع المجتمعات على اختلاف طبيعة أنظمتها السياسية.

غير أن تركيز الاهتمام  بشكل مبالغ فيه ومبتذل حول إرهاصات تشكيل الحكومة، يجعل من  الجهاز التنفيذي ، في تفكير أصحاب هذا الاتجاه ، وهو محور السلطة ومركز ثقلها، مع أن نصاب السلطة في المجتمع والدولة، أعيد انتشاره  وتوزعت اقساطه دستوريًا ، أفقيًا وعموديًا ، على مؤسسات مختلفة و فاعلين جدد وبنى تمثيلية أصبحت تمتلك  قدرات هائلة في التعبئة والتأثير في مسارات إنتاج القرار السياسي في البلاد .
ونسوق هنا مثالين، فقط، على ما يحملان من أهمية في هذا السياق: أول المثالين يتعلق بالجهوية المتقدمة التي تمت دسترها عام 2011 .

فهي ليست تعبيرًا عن إعادة انتشار للسلطة الحكومية المركزية، وإنما تندرج ضمن رؤية جديدة لهيكلة الدولة ومؤسساتها، تُمليها الحاجة الإستراتيجية لدولة الجهات، لذلك فهي تنطوي على فهم جديد للسلطة نفسها، توزيعًا واقتسامًا ،حيث ينقل صراع الأفكار والمشاريع ضمن التنافس السياسي حول تدبير السلطة إلى الجهات باعتبارها ذات تمثيلية حقيقية للقاع الاجتماعي و مجالات معاصرة للمشروعية السياسية الجديدة للدولة.

وأضح أن الجهات أضحت تمتلك نصيبًا من السلطة، لكن هذا الحق الدستوري لا زال محجوزًا من طرف حكومة مسكونة بهاجس الحساب السياسي الجاري مقابل تجميد الرصيد السياسي الثابث للديمقراطية.

فقد مرّت خمس أعوام ولم يتم بعدُ إخراج المراسيم التطبيقية لتوزيع الاختصاصات والصلاحيات والموارد، مما يستنتج معه أنه ثمة مصادرة لحقٍ ديمقراطيٍ في السلطة هو عينه حق التفويض الانتخابي المسنود للنخب الجهوية من طرف المواطنين بموجب سلطة الاقتراع العام.

وثاني المثالين المتصل بالمدارات الجديدة للسلطة، هو بروز نخب جديدة وقوى تمثيلية صاعدة ، ووسائط اجتماعية مؤثرة، التي باتت تحتل صدارة المشهد السياسي والاجتماعي، إلى الحد الذي تجاوزت فيه أحيانًا كثيرة الفاعل السياسي التقليدي والحزبي منه خاصة بعد أن توارى "هذا الأخير" إلى الخلف وفقد الكثير من مقومات فاعليته في المجال السياسي، مع أنه المؤهل أكثر من غيره ليلعب هذا الدور بحكم الطبيعة السياسية والوظيفة الدستورية.

هذه التحولات الداهمة و الكاسحة لمجتمعنا، إذ تسائل مفهوم وجدوى السلطة ، فهي لا تسائل الدستور الذي حسم في توزيعها واقتسامها، بل تسائل أدواتها الوظيفية الرئيسية، وفي مقدمتها الأحزاب السياسية ، وتطرح أكثر من علامة استفهام حول أسباب الاحتباس الذاتي في تفكيرها السياسي  وارتكانها إلى ممارسات سياسية مغتربة في عالم جديد، و تخلفها عن  التقاط عناصر التحول الجاري في واقع اليوم، و مدى قدرتها عن القبض على المداميك المولدة للديناميات الجديدة التي تخترق  الحقل الاجتماعي والثقافي والسياسي الوطني كالحركات الاجتماعية الاحتجاجية التي تحتل الساحات العمومية، ومنظمات المجتمع المدني، و لوبيات المال والأعمال، والتعبيرات الهويات الجديدة، والخلايا الإرهابية المدمّرة، و الانفجار الهائل لتكنولوجيا وسائط الاعلام والاتصال والتواصل.

كل هذه التحولات والهزات العنيفة التي يتعرض لها المجتمع المغرب، إذا لم تحضر كهاجس ذو أولوية في مفكرة و رهانات الفاعل الحزبي المتهافت على منصب المسؤولية الحكومية، فإن أي كلام عن دمقرطة السلطة إنما هو رديف للديماغوجيا ، وما هو، في عيون الناس، إلا ملهاة الحكومة ومأساة السياسة

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ملهـاةُ الحكومةمأساةُ السياسة ملهـاةُ الحكومةمأساةُ السياسة



GMT 01:00 2022 الإثنين ,14 آذار/ مارس

بعد أوكرانيا الصين وتايون

GMT 11:30 2021 الإثنين ,20 كانون الأول / ديسمبر

عطش.. وجوع.. وسيادة منقوصة

GMT 21:38 2021 الجمعة ,12 آذار/ مارس

التراجيديا اللبنانية .. وطن في خدمة الزعيم

GMT 07:46 2019 الأحد ,27 تشرين الأول / أكتوبر

مزوار: اذكروا أمواتكم بخير !

GMT 00:19 2019 السبت ,14 أيلول / سبتمبر

اليمن والحاجة لإعادة إعمار القيم

GMT 11:33 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

يَموت حقٌّ لا مقاومَ وراءَه

GMT 12:18 2019 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تعرف لقاءً مهماً أو معاودة لقاء يترك أثراً لديك

GMT 19:14 2019 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

يبدأ الشهر بالتخلص من بعض الحساسيات والنعرات

GMT 11:40 2019 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تساعدك الحظوظ لطرح الأفكار وللمشاركة في مختلف الندوات

GMT 17:27 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحالفك الحظ في الايام الأولى من الشهر

GMT 20:11 2019 الأربعاء ,21 آب / أغسطس

تجنب الخيبات والارتباك وحافظ على رباطة جأشك

GMT 19:18 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحاول أحد الزملاء أن يوقعك في مؤامرة خطيرة

GMT 17:59 2019 الثلاثاء ,23 تموز / يوليو

تستاء من عدم تجاوب شخص تصبو إليه

GMT 11:31 2019 الجمعة ,29 آذار/ مارس

منع جمهور الرجاء من رفع "تيفو" أمام الترجي

GMT 08:41 2019 الأربعاء ,23 كانون الثاني / يناير

تفاصيل جديدة وصادمة في حادث قتل الطفلة "إخلاص" في ميضار

GMT 06:39 2018 الجمعة ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

"بيكوربونات الصودا" حل طبيعي للتخفيف من كابوس الشعر الدهني
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca