الصادق والسودان والخرافات

الدار البيضاء اليوم  -

الصادق والسودان والخرافات

عبد الرحمن الراشد


أُدركُ أن رجلا عمره ثمانون عاما صعب أن يغير أفكاره، وهذا حال الصادق المهدي، أبرز زعماء السودان وزعيم حزب الأمة، ومن رجاله التاريخيين أبًا عن جد، وكان رئيسا لحكومة منتخبة. أسقط الصادق في انقلاب عام 1989، وَقاد المعارضة ضد الثنائي البشير - الترابي لربع قرن.
ورغم القامة الكبيرة للصادق فإنك قد تصدم من قراءة أفكاره، كما كتبها في جريدة «الحياة»، عدد الجمعة الماضي. ما قاله الصادق بقلمه يكشف فكر وسر استمرار حاكم ديكتاتور مثل عمر البشير، وسبب فشل المعارضة التي كانت تسير وراء الصادق كل هذه السنين. يقول إن مؤامرة صهيونية أميركية جلبت حاكما دينيا، أي الإخواني حسن الترابي، حتى تثبت فشل الإسلام كنظام وحكم! ويؤمن أن العالم يسير وفق نظرية مايلز كوبلاند، مؤلف «لعبة الأمم» الذي يزعم أن المخابرات الأميركية هي التي تقرر المصائر، وتدير المؤامرات في أنحاء العالم. واستشهد الصادق بأحد ضباط الأمن السوداني الذي قال له: هذا ليس انقلابا سودانيا محضا بل من تدبير الـ«سي آي إيه».
وهكذا عاش زعيم المعارضة السودانية يؤمن بخرافة «لعبة الأمم»، وأن مصائر الناس تقررها الاستخبارات الأميركية، وقائمة طويلة من المفاهيم التي ما إن تهيمن على عقل حاكم لا يمكن أن يتعامل مع الواقع، ولا أن يبني للمستقبل. وفوق هذه الخرافات لام الصّادق في مفكرته كل النّاس إلا نفسه وتجربته، حتى الرئيس المصري السابق حسني مبارك. قال إنه عمل ضد السودان ودفعه للتورط في الحرب الباردة.
تاريخيا، حزب الصادق كسب الانتخابات السودانية حينها فعلا بالأغلبية، لكن أخذت منه الرئاسة غصبا، بتدبير شرير من منافسه المهزوم الإخواني حسن الترابي مع شاويش مغمور، بحيلة تعتبر مثل أفلام السينما. إنما الصادق لا يقدم قراءة صحيحة له وقيادته وحزبه، عن تلك الفترة وبعين موضوعية، لأنها أصبحت من التاريخ، فهو لا يعترف بأخطائه؛ مثل عجزه عن التعامل مع الفوضى في الشارع السوداني آنذاك. فبدلا من تعزيز علاقات بلاده وحكومته مع جيرانه الأهم، فوجئت الدول العربية وقتها أن الصادق المهدي ينخرط في علاقات تتعارض مع مصالح السودان. فتح خطوطا مع إيران وترك مساعديه يبشرون بعهد جديد من العلاقات الإقليمية، توحي بالعداء لمصر والخليج والعراق، في ذروة نزاعه مع إيران. الصادق اختار تعزيز العلاقة مع نظام الخميني دون مراعاة لمصالح بلاده في مصر والسعودية، وفي عهده أنشأ الإيرانيون أول مركز ثقافي لهم في الخرطوم عام 1988. ورغم هذا الانحياز المستفز لحلفاء السودان العرب يتهم مبارك بأنه من حاول توريطه في تحالفات الحرب الباردة! وفوق انفتاحه على إيران ألغى الصادق اتفاقية الدفاع المشترك مع مصر، وهذه كانت رسالة خطيرة إلى أهم بلد يرتبط به السودان! كل ممارسات الصادق كانت توحي بالعدائية لجيرانه العرب دون مبرر ثم يستنكر لماذا كانوا غاضبين منه. وفي رأيي أن الصادق بإدخاله الإيرانيين عاصمة السودان سهل عليهم تجاوزه. وهنا لا يستبعد علاقتهم بالترابي، الذي ينظر حزبه الإخواني إلى إيران الخمينية كمثاله الأعلى.
المتآمران، الثنائي الإخواني الترابي والعسكري البشير، فتحا بابًا أوسع لإيران بعد الانقلاب، وهذا يتناقض عقليا مع نظرية الصادق أن الـ«سي آي إيه» هي من جاءت بهما للحكم، بدعوى أنها كانت تريد تقديم نموذج على فشل حكم الإسلاميين. تحليل طبعا خارج المنطق. هل يعقل أن تأتي واشنطن بنظام يحكم أكبر بلد أفريقي يساند إيران ضدها ويحكم رُبع قرن؟ المثير أنني قابلت الرئيس مبارك بعد ثلاثة أيام من الانقلاب ووجدته يجهل حقيقة الانقلابيين!
على أية حال، أظن أن فشل المعارضة السودانية طوال عقدين ونصف في إزاحة الانقلابيين هو بسبب عقلية قيادتها، إيمانها بخرافة المؤامرات وميلها للوم الآخرين دون الإقرار بأخطائها، وعجزها عن التعامل بما يتناسب مع مصلحة الشعب السوداني مفضلة الانجرار وراء شعارات زائفة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الصادق والسودان والخرافات الصادق والسودان والخرافات



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 02:43 2017 الأحد ,17 كانون الأول / ديسمبر

حسن الرداد في ضيافة "أبلة فاهيتا" في "الدوبلكس"

GMT 01:14 2014 الأربعاء ,25 حزيران / يونيو

أهمية الكمون واستخداماته وفوائده الصحية

GMT 06:10 2018 الثلاثاء ,02 كانون الثاني / يناير

"ذا فويس كيدز" يواصل مشوار النجاح واستقطاب أكبر نسبة مشاهدة

GMT 11:57 2016 الأربعاء ,12 تشرين الأول / أكتوبر

المراهقة السياسية المتأخرة‎

GMT 11:43 2016 الأربعاء ,12 تشرين الأول / أكتوبر

2262 طن خضار وفواكة ترد للسوق المركزي في الأردن

GMT 08:55 2018 الخميس ,08 شباط / فبراير

قائمة بأفخم وأفضل الفنادق في الشرق الأوسط

GMT 04:12 2018 الجمعة ,26 كانون الثاني / يناير

سهام جلا تعود بقوة إلى الوسط الفني خلال مجموعة أعمال

GMT 10:25 2018 الأحد ,21 كانون الثاني / يناير

أطعمة خالية من السعرات الحرارية وتساعد في حرق الدهون
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca