مسار المصالحة

الدار البيضاء اليوم  -

مسار المصالحة

محمد الأشهب

لتحديد الأسباب التي حالت دون توقيع المؤتمر الوطني العام الليبي اتفاق السلام والمصالحة الذي تجاوز الشطر الأكبر من الصعوبات، يتبين أن الرغبة في اضطلاعه بدور مماثل للبرلمان والسلطة المعترف بها دولياً كان وراء تحفظات الشريك الذي ما فتئ يرفع سقف المطالب على نحو سياسي وأمني وعسكري حتى.

غير أن الذهاب إلى المفاوضات الذي استغرقته فكرة تضم أكبر ما يمكن من المكاسب على الأرض فرض نفسه على الأطراف المتناحرة، من دون أن يفلح أي منها في تمثل شروطه كافة. لأن مسار المصالحة توزع بين الهاجس المحلي الذي ينم عن ضجر الليبيين من استمرار الصراعات العبثية التي حولت حياتهم إلى جحيم، وبين الضغوط الإقليمية والدولية التي يؤرقها تغلغل التنظيمات الإرهابية وتهديد منابع النفط وتصدير الأزمة إلى بلدان الجوار، وكذا المخاوف الناشئة جراء استشراء موجة النزوح الجماعي في اتجاه السواحل الجنوبية للبلدان الأوروبية، عبر قوارب الموت التي غذت تجارة الهجرة غير الشرعية.

لا يوازي صبر المجتمع الدولي على الحالة الليبية المنذرة بعواقب وخيمة في حال وصول مساعي الوساطة الليبية إلى الباب المغلق، سوى المنهجية المتأنية للمبعوث الدولي برناردينو ليون الذي ما إن يستميل طرفاً حتى يستشيط خصمه غضباً، ويرفع سقف المطالب. وبعد أن جرب التأثير السياسي والمعنوي المحتمل لاستضافة جولات الحوار متعدد الأطراف والشركاء، من خلال جذب دول الجوار، بخاصة الجزائر ومصر والمغرب، رغبة في إضفاء بعد إقليمي وعربي على مساعيه المتواصلة تحت مظلة الأمم المتحدة، يبدو أن طرح فكرة جنيف، ذات الإيحاء الخاص في مسار مفاوضات دولية أكثر تعقيداً، يراد منه إبعاد أشواط المفاوضات عن الانجذاب لأي حسابات. فالأزمة الليبية وإن كانت محلية بمعايير الخلافات التي استخدمت شتى الوسائل من أجل الحسم من دون جدوى، انتقلت إلى مربع فضفاض، زادته المخاوف جراء «استيطان» تنظيمات إرهابية متطرفة، تعقيداً.

لا يلغي أي من الأطراف فرضية أن تشكيل حكومة وحدة وطنية يعتبر أفضل مخرج للأزمة، ليس فقط لأنه ينهي حالة التقسيم التي هيمنت على المشهد السياسي والعسكري، من خلال وجود حكومتين وبرلمانين، وأكثر من مصدر لاتخاذ القرارات من وراء الستار، ولكن لأن انبثاق سلطة واحدة بمرجعية شرعية تسمح ببلورة الخطوات المقبلة للفترة الانتقالية، في إمكانه أن يعاود بناء الثقة المفقودة. وكم من مرة لوح المبعوث الدولي برناردينو ليون بالكم الهائل من الانتظارات التي يعول عليها الشارع الليبي. وفي أقرب احتمال أن أصوات الناخبين، بعد إنهاء الأزمة المستعصية ستميل إلى الجانب الذي أبدى المزيد من المرونة في تحقيق المصالحة. ولعل هذا الإحساس ما دفع الأطراف المتناحرة للإعلان عند كل محطة أن الرغبة الصادقة تحذوها في تجاوز الخلافات وفتح صفحة جديدة.

من السابق لأوانه الحديث عن أي مشروع للعزل قبل إبرام اتفاق المصالحة، لأن ذلك يعتبر نوعاً من التعجيز وضرباً من وضع العصي في العجلة. فيما أن الوقائع التي عرفتها دول ما يعرف بالربيع العربي أكدت أن بناء الدولة سابق لهكذا إجراءات يمكن أن تترك لإجراءات قضائية في أبعد تقدير. ويصعب بكل المقاييس الإذعان لمثل هذه الشروط، إلا حين تصبح موضوع اتفاق جماعي تحسم فيه السلطة الشرعية الموحدة. وما لا يستوعبه كثيرون أن مطلب الأمن والاستقرار يعلو على غيره من الإجراءات.

حين يؤكد المبعوث الدولي إلى حوار المصالحة الليبية أن التقدم الكبير الذي أحرز على صعيد التوصل إلى اتفاق، يتطلب مضاعفة الجهود لتضييق فجوة الخلافات، فإن كلامه ينصرف بالدرجة الأولى إلى الطرف الذي لم يضع بصماته على الاتفاق بعد. وهذه المرونة التي تدفع في اتجاه إبقاء الباب نصف موارب مبعثها الحرص على عدم إقصاء أي طرف في التوصل إلى أرضية وفاقية مشتركة، تصبح أساس تسوية دائمة. ففي الملفات العالقة من هذا النوع يتطلب الأمر مزيداً من الوقت وكثيراً من الإرادة المشتركة. ولا داعي لأن يحس الطرف الذي أبرم الاتفاق بأي حرج، إذ من الأفضل استصدار قرار شامل ومتكامل على الاطمئنان إلى أنصاف الحلول.

غير أن الليبيين يريدون حلاً عاجلاً، كما هي دول الجوار والمجتمع الدولي قبل فوات الأوان. فالأزمة وإن كان ظاهرها ليبيا، فإن عمقها أكبر شساعة من الحدود الليبية.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مسار المصالحة مسار المصالحة



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca