"طائف" ليبيا المتأخر

الدار البيضاء اليوم  -

طائف ليبيا المتأخر

محمد الأشهب


ليس مثل المنتجعات الصيفية والشتوية أماكن مفضلة لإدارة المفاوضات بعيداً من الأضواء. ولا يخلو من وجاهة الوصف الذي أطلق على حوار الفرقاء الليبيين في الصخيرات، لدى مقارنته بحوار الطائف الذي قاد الإخوة المتصارعين في لبنان إلى ضفة المصالحة وإنهاء الأزمة.
غير أن الطائف كان بمبادرة عربية أقرتها قمة طارئة، اختارت السعودية والمغرب والجزائر إلى لجنة حكماء سطع عبرها نجم الديبلوماسي الأخضر الإبراهيمي كمفاوض بارع يعرف كيف يتجاوز المطبات والإحباطات عندما تصل الأمور إلى حافة الانهيار والأبواب المغلقة. ومما يحسب للمبادرة أنها لم تنتظر الضوء الأخضر من الأمم المتحدة ولا انتظرت إيفاد مبعوثين دوليين. ففي الجانب المتعلق بالمصالحة بين الفرقاء نزلت الدول العربية بثقلها، يوم كان يحسب لمواقفها بمعيار التأثير المباشر.
على رغم أن عوامل داخلية وإقليمية تضافرت وقتذاك في توجيه دفة أزمة لبنان، بالنظر إلى وجود البلد في عمق وتماس الصراع العربي – الإسرائيلي واستباحة أراضيه كقواعد خلفية معلنة أو متسترة، فإن مبادرة الطائف كشفت وعياً تاريخياً لناحية جذب أطراف الصراع إلى دائرة الوفاق وإنهاء مظاهر الاقتتال. ولم يكن غير العمل العربي المشترك مؤهلاً لاختراق الأزمة وتبديد معالمها.‬
مياه كثيرة جرت تحت الجسور العربية منذ ذلك الوقت إلى اليوم. أشدها وطأة أن مساعي حل الأزمات الأهلية صارت من اختصاص الأمم المتحدة، مع أنها لا تزيد عن تلوين بروفات عربية دخل على خطها قوى إقليمية. فالإيرانيون يحاولون تجاوز سقف الحل الخليجي في اليمن ويتمددون داخل العراق بعد أن عززوا خطواتهم في سورية. وأكثر الدول العربية تأثيراً في الأزمة الليبية لم تحل دون تغلغل تنظيم «داعش». ولا تقتصر التهديدات على المحور الأفقي في مشرق العالم العربي ومغربه، بل تشرئب أعناقها من الجنوب الذي يطوق خصر المجالات الأفريقية، من منطقة الساحل إلى «بوكو حرام».
إن لم يكن من هاجس لفرض الوحدة على الأطراف المتناحرة في ليبيا سوى التصدي للتهديدات الإرهابية التي أصبحت لها عناوين على الأرض في شكل ملاذات معروفة تمارس داخلها طقوسها المنافية لكل الأعراف والقيم، فإن المسؤوليات والانعكاسات تتضاعف. ففي أزمة لبنان التي أنهاها اتفاق الطائف كان الصراع داخلياً بقدر أقل من التمدد الخارجي، أما في الحال الليبية، فيجتمع البعدان المحلي والإقليمي دفعة واحدة، ما يفيد بأن بداية حل الأزمة يساعد في تطويق الظاهرة الإرهابية المقلقة.
لولا أن المخاوف التي تؤرق بلدان الاتحاد الأوروبي والجوار الإقليمي استقرت عند استشعار المنسوب الهائل من المخاطر الإرهابية، لما تحركت أوساط ومساع للبحث في سبل تطويق التهديدات. فقد عانى العراق على امتداد سنوات من التداعيات السلبية للمحاصصة الطائفية واستئثار نزعات مذهبية بالسيطرة على السلطة والثروة، ولم ينبثق التحالف الدولي إلا في ظل تهديدات ما يعرف بتنظيم «الدولة الإسلامية». وما من شك في أن الأوضاع في اليمن ستفرض نفسها على صدارة أجندة الاهتمام، جراء التدهور الأمني الذي يفسح في المجال أمام هيمنة الفوضى والاضطرابات، وأشكال التطرف، فيما الحالة الليبية التي طاولها التدهور منذ فترة لم تقرع أجراس المخاطر إلا في غضون تمدد النزعة الإرهابية.
كيفما كانت خلافات الأطراف المتصارعة، فإنه يصعب تبرير تورط أي منها في غض الطرف عن الممارسات الإرهابية، لأن ذلك يشكل وثيقة إدانة. وكما أن الانخراط في الحرب على الإرهاب أصبح ملزماً للدول والمؤسسات، فإنه لا يعفي الفصائل المتناحرة من الانضمام إلى المجتمع الدولي في سعيه لاجتثاث منابع الإرهاب والتطرف. وأول ما يفرضه الموقف الاتفاق على خطة منهجية وملزمة لنزع السلاح، كونه مصدر كل المتاعب.
في العراق، شَكّل انهيار الجيش العراقي وحلّه منطلق فوضى في انتشار السلاح والتحاق التنظيمات الإرهابية المتطرفة بما تعتبره «جهاداً» ضد الاحتلال. وفي اليمن توزعت ولاءات قطاعات في الجيش والأمن، بما أفقد المؤسسة العسكرية تماسكها، وفي ليبيا تغلغلت حالات الانفلات وتمددت في كل اتجاه، ما يؤكد أن تباعد مواقف الأطراف في أي أزمة لا يستفيد منه إلا التنظيمات الخارجة على القانون.
بين أن يوجه الأطراف بنادقهم في اتجاه العدو المشترك، وبين أن يسددوا الضربات إلى بعضهم بعضاً، تكمن مفارقة الاختيار. وثمة سباق على الأرض بدافع الهيمنة وإغلاق المنافذ لا يوازيه السباق السياسي الذي بدأ متأخراً. لكنه أفضل من ترك الحبل على الغارب.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

طائف ليبيا المتأخر طائف ليبيا المتأخر



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca