الرائد والعقيد في الزمن الفريد

الدار البيضاء اليوم  -

الرائد والعقيد في الزمن الفريد

عبد الرحمن شلقم
بقلم - عبد الرحمن شلقم

جاءت ثورة الفاتح من سبتمبر (أيلول) الليبية، في زمن له خصوصيته الفريدة ليبياً وعربياً ودولياً. كانت ليبيا في مفترق طرق بكل المقاييس.
بدأت الثروة النفطية ترفع أعمدتها فوق الأرض وتدخل إلى بيوت الناس، في حين بدأت الفوارق بين الجيلين السياسيين الأول والثاني تتحرك، والملك إدريس السنوسي أدرك ذلك، ولكن بحكم السن، لم يتمكن من اتخاذ القرارات الحاسمة لمواجهة الحقائق التي يراها تتحرك أمامه. أراد تغيير النظام الملكي إلى نظام جمهوري، لكن رفاقه من الحرس السياسي، عارضوا ذلك بشدة.
عربياً كان زخم المد القومي العربي فاعلاً رغم الهزيمة العسكرية العربية الصاعقة في حرب يونيو (حزيران) 1967 أمام إسرائيل. بدأت مصر في حرب الاستنزاف. تغير الخطاب السياسي العربي وتوارت التعبيرات الساخنة وفي مقدمتها «الثورية والرجعية»، وفرض الواقع الجديد تقارباً هادئاً بين الدول العربية. على المستوى العالمي، كانت الحرب الباردة بين الشرق والغرب على أشدها وتشكل وضعاً عالمياً فرض نفسه.
قامت ثورة الفاتح في ليبيا بقيادة ضباط شباب من ذوي الرتب الصغيرة، وأعلنوا منذ اليوم الأول هويتهم القومية العربية المؤيدة لفكر وسياسة الرئيس جمال عبد الناصر. الضباط الوحدويون الأحرار هم من نفّذوا ذلك التغيير في ليبيا، وعلى رأسهم أعضاء مجلس قيادة الثورة الـ12، يترأسهم العقيد معمر القذافي. ظهر إلى جانبه مبكراً الضابط الرائد عبد السلام جلود، وأدرك الجميع أنه الثاني في الترتيب القيادي بعد العقيد معمر القذافي.
في مذكراته التي صدرت مؤخراً واختار لها عنوان «الملحمة»، عرض الرائد عبد السلام جلود محطات من تاريخ علاقاته مع الطالب ثم الضابط، وبعد ذلك القائد العقيد معمر القذافي. بعد اللقاء الأول بينهما في المعتقل بمركز البوليس بمدينة سبها، كان اللقاء الثاني بـ«غابة حجارة» قرب القسم الداخلي بمدينة سبها.
قال عبد السلام جلود في الصفحة 28 من ملحمته: «جاء القذافي حاملاً معه صرة فيها القليل من الخبز والجبن وبضع تفاحات، وكان معه مذياع صغير. ثم بدأ حديثه معي قائلاً: يا عبد السلام، المظاهرات والاعتصامات عمل سلبي، ولا بد من الانتقال إلى العمل الإيجابي المنظم...»، ويستمر عبد السلام، قائلاً في مذكراته: «أعطاني معمر مجموعة من الكتب منها: مؤلفات ساطع الحصري، وكتاب يا ولدي هذا عمك جمال»، تأليف أنور السادات.
لماذا قرر معمر اللقاء المباشر الثنائي مع جلود؟ في أي مشروع سياسي أو أدبي أو فني أو غيره، يعرض المبادر أو المبدع، بذرة أفكاره على شخص يرى فيه قدرات أو إمكانات ذاتية معينة، وفي حالة العمل السياسي السري في دولة تجرم العمل الحزبي العلني والسري، يكون هناك شرط أساسي حاسم وهو الثقة المطلقة بالطرف الثاني، من دون شك فقد توجه الطالب معمر القذافي إلى الطالب عبد السلام جلود عندما وجد فيه ما كان يبحث عنه. كان معه في المدرسة عدد من الطلبة الذين تجاوبوا مع أفكاره، لكنه مع ذلك لم يجد فيهم المواصفات الشخصية التي رسمها لمشروعه. كان لقاؤهما في «غابة حجارة»، الحجرة الأولى في تأسيس العلاقة السياسية والشخصية بينهما، وتواصل البناء عليها عبر مسيرة متواصلة استمرت لعقود من الزمن في العمل السري، وبعد ذلك على قمة السلطة في ليبيا.
بعد طرده من فزان، انتقل معمر القذافي إلى مدينة مصراتة، حيث واصل دراسته في المرحلة الثانوية، وحمل معه مشروعه الفكري والثوري والتنظيمي، وباشر في توسيع خلايا تنظيمه السري بين طلبة المنطقة من طلاب مصراتة والخمس وغيرهما من زملائه الطلبة، وذهب جلود إلى طرابلس حيث واصل دراسته الثانوية.
في الصفحة 34 من ملحمته قال عبد السلام جلود: «كنا قد أسسنا في عام 1959 تنظيم حركة الوحدويين الأحرار. وفي عام 1960، اختار التنظيم لجنة مركزية برئاسة معمر القذافي وعضوية كل من عبد السلام جلود، ومحمد الزوي وسالم الطاهر الحضيري وإمحمد الحضيري ومحمد خليل وسالم والي وعمر المحيشي وإبراهيم أبجاد والهادي فضل. في عام 1963 اقترح الأخ معمر أن يتوجه أعضاء الحركة إلى الكلية العسكرية، متخلياً عن أساس الحركة وهو التوجه إلى الجامعات والمعاهد العليا لتفجير ثورة شعبية تطيح بالنظام الملكي العميل». في هذا الاقتباس من المذكرات، نقف عند حقائق لها دلالات كبيرة ومهمة. أولها، أن معمر القذافي هو قائد التنظيم منذ بداية مأسسته. وثانيها، أن اللجنة المركزية ضمت ثلاثة عناصر من خارج ولاية فزان، وهم عمر المحيشي ومحمد خليل من مصراتة، وسالم والي من الخمس. وثالثها... لأول مرة يفاتح معمر القذافي زملاءه بضرورة التوجه إلى الكلية العسكرية، وهنا تتبدى القدرة القيادية لمعمر القذافي. فهو لم يفاتح زملاءه منذ البداية بمشروعه العسكري خوفاً من ترددهم أو اختلافهم حول ذلك، ولكنه طرح هذا المشروع بعد مأسسة الحركة، وفي النهاية قبل أغلبهم بما اقترحه، بمن فيهم عبد السلام جلود وعمر المحيشي اللذان قال جلود إنهما صوّتا ضد مقترح معمر، لكنهما التحقا بالكلية العسكرية، بل أصدرت اللجنة المركزية قرارات أهمها: 1ـ يجب على كل أعضاء الحركة الانتساب إلى الكلية العسكرية 2 ـ على أعضاء الحركة الذين يتم قبولهم في الكلية العسكرية، أن يعملوا من أجل ضم أكبر عدد ممكن من الطلبة.
هكذا أدخل معمر القذافي الجميع في الحلقة الثانية من مشروعه الذي يتبع خطوات معلمه جمال عبد الناصر، الذي أخذ منه اسم الحركة، وكذلك الباب الذي يلجه نحو السلطة وهو العمل العسكري.
طيلة وجوده في مدرسة مصراتة الثانوية، لم يتوقف الطالب معمر القذافي عن الاتصال الدائم بجميع زملائه في الحركة محافظاً على حيويتها ويدفعهم إلى الحلقة الثانية في سلسلة مشروعه، وهي الالتحاق بالكلية العسكرية.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الرائد والعقيد في الزمن الفريد الرائد والعقيد في الزمن الفريد



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة

GMT 13:52 2016 الأحد ,20 آذار/ مارس

كريم طبيعي مزيل لرائحة العرق

GMT 08:47 2016 الإثنين ,11 كانون الثاني / يناير

البامية للوقاية من الأمراض المستعصية والاكتئاب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca