«تسوتايا» ليست مكتبة

الدار البيضاء اليوم  -

«تسوتايا» ليست مكتبة

سوسن الأبطح
بقلم - سوسن الأبطح

تتوسَّع متاجر «تسوتايا» اليابانية لبيع الكتب من طوكيو، وتتمدَّد في كل اتجاه، حتى بات لها آلاف الفروع في المدن الصينية وتايوان، ومؤخراً افتتحت لها فرعاً ضخماً في كوالالمبور في ماليزيا. ولا بد أن المتجر الذي يتحوَّل إلى ماركة تجارية عالمية سيسجّل نجاحاتٍ أخر؛ حيثما حلّ. سرُّ هذه المكتبة التي أرسيت أولى لبناتها عام 1983 أنَّها أدركت سريعاً أنَّ الكتاب سلعة، تحتاج مكملات ومشهيات، لتبقى النفوس يقظة اتجاهها، وأنَّ الاكتفاء بعرض المؤلفات على الأرفف، صامتة، رصينة، بانتظار وصول القارئ، هو أمر سينتهي إلى خيبة أمل، أو في أحسن الأحوال، إلى نجاح محدود.

«تسوتايا» هي مناخ أولاً، معمار جميل، ديكورات حديثة وجذابة، وكتب محاطة بكل ما يبعث على الرغبة في الاستهلاك، من أقلام ودفاتر ومشروبات ومآكل، ومقاهٍ ومطاعم، حتى ملابس ومسليات. إنَّه الكتاب محاط بكل ما يبقيه نضراً في نظر القراء. فغالبية الذين يسألون عن سبب ارتيادهم لمتجر الكتب هذا يقولون إن الهدف ليس الكتاب بحد ذاته، وإنَّما كل الأشياء الأخرى.
وحين تفتح منصات القراءة وبيع الكتب العربية، لترى الأكثر توفراً وقراءة، تلحظ أن المؤلفات التي تتحدث عن تعليمك النجاح والإدارة، والمعلوماتية، وتنظيم الوقت هي الأكثر رواجاً، وليس الأدب الكبير، والنص البليغ، والكاتب العميق.
وكان اللبنانيون قد تفجّعوا قبل أيام، عند الإعلان عن إغلاق «مكتبة أنطوان» في أسواق بيروت. وهي بالفعل واحدة من أحلى وأحدث وأمتع المكتبات في العاصمة، ونسوا أنها لم تكن مفتوحة أصلاً منذ انفجار 4 أغسطس (آب) 2020، أي منذ سنتين بالتمام، ولعلَّهم لم يلحظوا ذلك أصلاً، لأنَّ المنطقة برمتها، منذ بدء الانهيار الاقتصادي، صارت سكناً للأشباح، ولا يرتادها إلا قاصدها، ثم جاء الانفجار ليقضي على ما تبقى. ومع أنَّ إدارة «أنطوان» طمأنت إلى أنّها تملك 12 فرعاً في بيروت والمناطق، ولن تغلق أياً منها، سوى هذا الذي أصيب في مقتل الانفجار والانهيار، فإنَّ الحزن بقي دفَّاقاً، والمراثي مستمرة. وقبل «أنطوان» أغلقت في الوسط التجاري مكتبة «البرج» الأنيقة في بناية «النهار»، وقبل أشهر أعلنت مكتبة صغيرة في شارع الحمرا هي «واي إن» أنها ستنهي أعمالها نهائياً.
وكي لا نقع في المراثي التي تعتمد جلد الذات، فالكتاب العربي ليس استثناء في محنته، ولبنان على فرادة مآسيه يعيش تحولات العالم. ولم يخفِ صاحب مكتبة «واي إن» أن البيع جيد، والشراة كثر، والمكتبة بخير، لكن والديه اللذين يديران المكتبة باتا في سن لا تمكنهما من ذلك، بينما هو وإخوته لهم أشغال أخرى. وبالتالي فإغلاق مكتبة أو مؤسسة ثقافية ليست أسبابه دائماً مالية، وهي في الغالب أكبر من ذلك وأعمق.
الكتاب العربي على أزماته له ألف باب فرج، بسبب سحر اللغة العربية، وقدرة أكثر من 400 مليون على قراءته، والناشر الذي يواجه صعوبات في لبنان أو العراق يجد قراء في الإمارات أو السعودية حتى المغرب والجزائر.
أغلقت مكتبة واحدة من فروع «أنطوان»، لكن الفروع الأخرى مفتوحة. ولم تغلق مكتبة «بيسان» و«البرزخ» و«الفرات». بل إن دور نشر تتوقف، وأخرى غيرها تنشط، تماماً كما استراحت صالات السينما التاريخية الفخمة، العريقة في شارع الحمرا البيروتي، لتحل عوضاً عنها صالات حديثة في المجمعات التجارية. وهذا كله يبدو حزيناً، لكن العالم يعيش تحولات هي أسرع من أن ندركها أو نفهمها أو نلحق بها، وأحياناً لا نملك غير الفرجة المتألمة، لفقدان المعلومات والأرقام والدراسات، وبالتالي نعجز عن اجتراح الحلول.
ففي شارع الراهبات في طرابلس الذي كان عامراً بالمكتبات المدرسية والتجارية، حلَّت متاجر الملابس والأحذية المستعملة، ويبدو أن الأحذية لها السبق على محلات الكتب الآفلة، لسبب لا نعرفه.
أما تحولات الكتاب فشأن عالمي، لـ«أمازون» بشكل خاص، وأخواتها الصغيرات اليد الطولى فيه. الأسئلة تتنامى حول دور المكتبة الفعلي، هل لا تزال وسيطاً ناجحاً بين الناشر والقارئ، أم متحفاً لعرض الكتب والتفرج على ما تبقى منها ورقياً، أم أنها يجب أن تتحول إلى ملتقى ثقافي، أم نادٍ حواريّ، بعد أن فقدت وظيفتها الأولى؟ وهل الكتاب بمقدوره أن يصل إلى البيت، أو يقرأ على لوح بثمن أقل، كما بإمكان الكاتب أن يوفر ثمن الطباعة ويضع مؤلفه بنفسه على موقع «أمازون» بمعونة الفريق التقني للشركة، الحاضر أبداً للمساعدة، ويعرضه للبيع، ويجني الربح إن وجد بدون أن يتقاسمه مع أي دار نشر؟ فنحن هنا، أمام وقائع ستغير خريطة المكتوب والمطبوع الذي قد يتحول إلى مسموع بصوت الكاتب أيضاً.
الكتاب لا يموت. المكتبة ليست في النزع الأخير، والأدب لم ينتهِ، وإنما هي مرحلة انهيار عارم لمفاهيم وأدوات، نجد صعوبة في استبدالها، أو فهم بدائلها.
كنبات وثيرة، جلسات هادئة، أماكن مثالية للطلاب الهاربين من عزلة الدرس في المنازل، أو ضجيج العائلة، كلها توفرها «تسوتايا بوكس»؛ حيث يمكن للزوار قضاء يوم كامل، متنقلين بين ممارسة هواياتهم، وتناول وجباتهم، والعمل عن بعد، محاطين بأجواء الكتب والورق والحبر. إذ لا يزال للكتاب سحره، وإن تغيرت معايير التعاطي معه.
ففي المكتبة اليابانية الشهيرة، يأتي الرواد للتسكع والتبضع والاسترخاء، وتصوير أفلامهم القصيرة لنشرها على «تيك توك»، أو عمل بث مباشر على «إنستغرام»، مستفيدين من ديكورات خلابة، وأجواء حالمة، تتغير بتبدل الركن الذي يقفون فيه، قبل أن يفكروا في زيارة المكان للتعرف على الكتب الحديثة. وأصحاب المتجر لا يحزنهم الأمر، بل يستفيدون منه، لعرض كتبهم وبيعها، لجمهور لم يكن يفكر في ارتياد المكتبات التقليدية.
«تسوتايا بوكس» شكراً، وأهلاً بالمكتبات الحديثة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«تسوتايا» ليست مكتبة «تسوتايا» ليست مكتبة



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca