محنة في المدرسة

الدار البيضاء اليوم  -

محنة في المدرسة

سوسن الأبطح
بقلم:سوسن الأبطح

الانقلابات والتحولات العالمية تسبق قدرة التربويين على التأقلم، وفهم المطلوب منهم لتهيئة جيل قادر على مواجهة الحياة، والعثور على فرص عمل.

لذلك، التعليم ليس بخير. والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، أطلق نداءً عاجلاً، يطالب فيه دول العالم أجمع بـ«إصلاحات جذرية» في نظمها التعليمية، محذراً من أن أي دولة لا تستجيب للنداء «تخاطر بالتخلف عن الركب». فقد تكشّفت الأرقام عن تدهور غير مسبوق، و«أزمات عميقة تعاني منها المدرسة، في الدول النامية والمتقدمة، على حد سواء».
المعضلة ذات وجهين؛ تسرّب غير مسبوق، وبالتالي انتشار للأمية، وقصور في المستوى، حتى عند من يلتحقون بالمدارس والجامعات.
تم إحصاء 358 مليون طفل هم اليوم خارج النظم التعليمية. رقم قياسي، يصل إلى أربعة أضعاف ما كانت عليه الحال، قبل ست سنوات فقط. حالة وصفتها مديرة صندوق «التعليم لا يمكن أن ينتظر» ياسمين شريف، بأنها «صادمة ومخزية».
الأزمة تستفحل في الدول الفقيرة والمتوسطة؛ لكن غوتيريش لا يخفي أن «أغلب أنظمة التعليم المعمول بها لا تزال عالقة في الماضي. ومناهج التدريس، كما طرق تدريب المعلمين، عفّى عليها الزمن»، الأمر الذي يترك الخريجين بلا مهارات كافية، في أسواق عمل سريعة التغير، وتحتاج تأهيلاً ديناميكياً، لم يتوفر بالقدر بعد.
50 في المائة من تلامذة المدارس في سن العاشرة، في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، غير قادرين على قراءة النصوص؛ لكن الأمر قد لا يدعو إلى كبير تفاؤل، في دول تصنف متقدمة تعليمياً. حتى المقاييس الدولية لمستوى التعليم بات مشكوكاً بها، وكل منها تعطي مؤشراتها، نتائج مختلفة عن الأخرى، تبعاً لأمزجة وأهداف واضعي الاختبارات.
فهل ثمة من يملك الكلمة الفصل في توصيف ما هو التعليم الجيد؟ وأي مهارات يحتاجها التلميذ في كل مرحلة، وما الذي يتوجب حذفه، أو تستحسن إضافته، كي نصل بطلابنا إلى برّ الأمان؟
تعيش البشرية على فالق زلزالي خطير، وتحاول أن تجتهد، وتصيب أكثر مما تخيب.
هذا ما يفعله 140 وزير تربية يجتمعون في «اليونيسكو»، ليقدموا تصوراتهم، حول التحولات في التعليم التي لا بد منها. دول مثل الغابون أو كينيا تسرع الخُطا، وبلد على شاكلة لبنان يشله غياب الكهرباء وسوء خدمة الإنترنت، يضطر للتعليم عن بعد، جزئياً، حتى بعد انحسار الوباء؛ لأن الوصول إلى المؤسسات التعليمية فوق طاقة الأساتذة، وهو ما قد ينسحب على دول أخرى مع ارتفاع أسعار الطاقة، وشحّها.
الخبراء يؤكدون أن التحول المنشود سيمر من خلال جعل التعليم تفاعلياً، والاستغناء عن اعتماد النصوص وحدها. لا بد من روبوتات تجيب عن الأسئلة المتنامية للطلاب، ومن الاستفادة من تقنيات تحول النص المقروء إلى مسموع، وتسهيل تحويل صوت الطالب أو الأستاذ بشكل آلي إلى نص، لتمكين من يرغب في العودة إليه، واللجوء إلى تطبيقات متخصصة في كل مادة، لمساعدة الأستاذ في تعليم الطالب. كل هذا ولم نتحدث بعد عن الواقع المعزز الذي سيسهم في خلق صفوف افتراضية بالكامل موازية للصفوف الواقعية.
يبدو الأمر مثالياً، ورائعاً، خارجاً من عالم الخيال العلمي. وتظن أنه سيطبق في عوالم نحتاج أزمنة لنصلها؛ لكن الوقائع أثبتت أن البشرية تعيش إيقاعاً واحداً متناغماً إلى حد مقلق، وأن التطبيق سيكون في أميركا كما في البرازيل وأوغندا، وما ستختلف هي الآليات، والقدرة على التأقلم والتلقي.
وحين يتساوى الجميع في الأدوات، من دون امتلاك الخلفيات ووضوح الرؤية، حينها، تدبّ الفوضى.
تطمئن «اليونيسكو»، بطريقتها الدبلوماسية، إلى أن التأقلم مع الجديد له تاريخه المديد. فقد نشر المدرّس كالب فيليبس، قبل 200 سنة، عبر صحيفة «بوسطن غازيت» دروسه الأسبوعية، واستفاد منها الطلاب. وعندما حطّ الراديو لم تتأخر «جامعة بنسلفانيا» عن بث الدروس عبره لطلابها، ثم كانت الاستفادة من التلفزيون للتوجه للتلامذة ببرامج تعليمية أتت أكلها، وحين وصل الكومبيوتر مطلع الثمانينات، استفيد منه في تطوير العملية التعليمية، ومع شبكة الإنترنت عام 1992 بدأت تظهر الدروس الإلكترونية. وهذا كله صحيح. تحيا التكنولوجيا، وتباً لمن يطالب بالتخلف عن ركبها.
لكن الفرق هذه المرة، أن التغير لا يطول الوسيلة وحدها، كما كان الحال مع الأدوات السابقة رغم ما واجهته من صدود، وإنما صلب المضمون أيضاً. هناك ضرورة للخروج من المناهج القديمة، والبحث عن بدائل تناسب عصراً له متطلبات استثنائية. ثمة فرق بين التطوير والسعي إلى تشييد بناء معرفي جديد. وهو ما يحتاج من كل دولة أن تكون لها رؤيتها الفلسفية للتعليم وأهدافها منه، بحيث يتوافق مع خططها المستقبلية. ما يجعل التعليم مفتاحاً إما أن نلج به إلى الخلاص وإما نعبر إلى الجحيم.
لا شيء أكيد. فليس من بين عشرات الوزراء المجتمعين في «اليونيسكو» في باريس، الراسمين للخطط، والذاهبين إلى الأمم المتحدة في نيويورك، في شهر سبتمبر (أيلول) لاستكمال البحث، من يملك معرفة واضحة عما ستكون عليه مدرسة عام 2030 التي يسعون إليها. هناك من يقول إنها ستكون افتراضية جزئياً، أو لا مركزية، قد يقضي التلميذ غالبية وقته في التعلم البيتي، أو جزءاً منه في الطبيعة. هناك من يعتقدها بلا أستاذ، أو أن التعليم يجري مناصفة بين معلم وهولوغرامه، وقد لا تستخدم غير الشاشات، وتعتمد الأفلام والألعاب حتى في التقييم والاختبار.
المخاوف لا تتأتى من الجديد؛ بل من أن جيلاً أو جيلين، على الأقل، من الأطفال، سيتحولون إلى حقل لاختبارات تعليمية، لا تشبه ما رأيناه في أي مدرسة، على مرّ تاريخ البشرية، وتلك مغامرة فادحة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

محنة في المدرسة محنة في المدرسة



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة

GMT 13:52 2016 الأحد ,20 آذار/ مارس

كريم طبيعي مزيل لرائحة العرق

GMT 08:47 2016 الإثنين ,11 كانون الثاني / يناير

البامية للوقاية من الأمراض المستعصية والاكتئاب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca