سياسة الخذلان

الدار البيضاء اليوم  -

سياسة الخذلان

سوسن الأبطح
بقلم : سوسن الأبطح

حسناً، لا مشكلة في أن تصدر ترجمة لرواية «الغريب» لكامو بالعامية المصرية، وقبلها أصبحت «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري بالعامية أيضاً. ولحقت «الهيئة المصرية العامة للكتاب» بالركب، وهي التي زودتنا بالذخائر على مدار تاريخها العريق لتصدر «بالختم الكيني» لشيرين هلال، بالمحكية المصرية. فهل سنرى «تاريخ الطبري» باللبنانية والجزائرية والسودانية، مثلاً؟ وماذا عن الأحاديث والتفاسير وفتاوى الأئمة؟ تتزايد الكتب العامية، في مختلف اللهجات، دعاتها يتصدرون الشاشات، يخبروننا أننا فقدنا التواصل مع الفصحى، ولم يتبق أمامنا سوى المحكيات وسيلة للقراءة، وفهم المعلومات، وإنقاذ أنفسنا والجيل الجديد من الجهل التام. المسلي في الأمر، أن هؤلاء يحاولون إقناعنا، وهم يتحدثون ويكتبون الفصحى، ليصلوا إلى أكبر عدد من الناس، لعلمهم المسبق أن عاميتهم، لا تتجاوز حدود دولهم. فأنت حين تقارب الأزمة خطأ، تخلص، حتماً، إلى نتائج مدمرة.
هم محقون بأن العربية تجمّدت، ونتاجها شحيح ومصطلحاتها غير دقيقة. إنما أمة لا تنتج بفصحاها، هل تصبح أدمغة أهلها أكثر ذكاء بعاميتهم؟ النظر إلى اللغة على أنها مجرد أداة ناقلة، لا يصمد أمام النظريات اللغوية. مؤسس المدرسة السلوكية جون واطسن وصل إلى حد التوحيد بين الفكر واللغة، وقال إننا «حين نفكر فإننا نتكلم»، وربما أننا نرسم أو نعزف الموسيقى. الموضوع مركّب، وتبسيطه جناية. اصغِ قليلاً إلى عاميات من حولك، تدرك مباشرة، أنها ذات مستويات مختلفة. ويحدث كثيراً، أنك تفهم ما يقال بجمل مكسّرة، ركيكة، وغير تامة، من خلال السياق فقط. محكياتنا، أيها السادة، مهشّمة هي الأخرى، لأنها تعبّر عن فكر يكتنفه الضباب. ولمن يدّعي أن تعلم الفصحى صعب خاصة للأجنبي، فهل له أن يخبرنا ما هي طريقته العظيمة لتعليم العامية لغير المتحدثين بها؟
إذا كان من جانٍ يحاسب اليوم، فهم ليسوا المطبلين للعامية، وإنما القيمون على الفصحى أنفسهم، الذين يقفون لك عند كل زاوية، ليصححوا مفرداتك حتى حين تكون صحيحة، ويصرّون على اجتهاداتهم النحوية، ومعجمهم الذي تحنّط في العصر العباسي، مع أن الألفاظ المشتركة مع العامية متوفرة، لا بل وغزيرة. ثم ما مدعاة التمسك بتحفيظ دروس النحو والصرف، جافة، كئيبة، من الصف الأول إلى الجامعة، وقد تبين منذ عشرات السنوات أنها تُنسى، وتنتج أميين؟ ما سبب الصدود عن اعتماد القراءة، بشكل مكثف، من خلال نصوص قديمة كما حديثة وطازجة، للتماهي مع روح اللغة، وإخراجها من مواتها؟ لماذا تقدم دروس العربية وكأنها أجنبية لا بل أقل، لأبنائها، وهم الأولى بها؟ كم من الوقت نحتاج، لنتخلص من الصورة النمطية لأستاذ العربية، وكأنه تتلمذ للتو على أيدي سيبويه، فيما أستاذ الإنجليزية عصري، خفيف الظل. ومتى تقرر الجامعات أن اختصاص العربية هو للمتفوقين، لا لمن تقطعت بهم السبل إلى الكليات الأخرى.
نقبع بين تيارين متطرفين، يتصارعان منذ قرنين، ويزداد كل منهما حدّة. وإذا ما تابعا مسارهما العقيم، لن نذهب إلى عامية منتجة، بل إلى عاميات هزيلة، ولن تصبح الفصحى جزءاً من وجداننا الحي. تلك مسألة تحتاج خططاً وطنية شاملة. هي جزء من البنية التحتية للدولة، تماماً، كما شبكة المياه والكهرباء والإنترنت والطرق. اللغة هي إنسانيتنا وتواصلنا، وراءها يختبئ ميلنا للعنف، وتحبيذنا لأدوات شرسة، حين تقصر عن ترجمة ما نريد.
الكتابة بالعامية، تحريض على الانطوائية، رفضها طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ الذي اعتبر أن للعامية «عدة لهجات في البلد الواحد، فالصعيد يتحدث بلهجة عامية، ووجه بحري لهم لهجتهم. داخل البلد الواحد قد لا يفهم سكانه بعضهم بعضاً بسبب اختلاف اللهجات المحلية». هذا عدا أن العامية تتحول مع الأجيال. فمن في الستين اليوم، قد لا يفهم العديد مما يتداوله من هم في العشرين، والشقة تكبر بسرعة، بسبب التكنولوجيات.
بذل اليهود جهوداً مجنونة، لإحياء عبرية منقرضة لم تكن موجودة إلا في بطون الكتب الدينية وبعض دور العبادات اليهودية. ولولا ذلك لما عرفت حتى طريقة نطق حروفها والأصوات. الترجمة الحقيقة لهذا المشروع الفريد، لم تبدأ عملياً، إلا مع وجود المستعمرات الأولى لليهود في فلسطين تحت الانتداب الإنجليزي. كان بمقدورهم تبنى الإنجليزية الجاهزة، القوية، المنتصرة، والتواصل مع العالم أجمع، من دون نبش في التراث، ونحت في الألسن. لكنهم أدركوا أنها هويتهم الوحيدة الممكنة، ومن دونها لن يكونوا كياناً يذكر.
ومن دون العربية، نتحول إلى فتات أمة مشرذمة، لا قيمة اقتصادية لها ولا وزناً اجتماعياً. لغة حية، فتية، في المرتبة الرابعة عالمياً على الإنترنت وقبل الفرنسية، رغم كل ما يشاع. من اللغات القليلة المعتمدة في الأمم المتحدة، يفهمها، شئنا ام أبينا 400 مليون شخص، لو بسّطنا التخاطب بها، ومع ذلك نلفظها، نجلدها، ونعلن الطلاق منها. فهل بقي للعرب غير لغتهم المشتركة؟ وما الذي سنجنيه بعد أن نصبح كأهل برج بابل، الذين وقع عليهم سخط السماء فتبلبلت ألسنتهم، وتفرقوا في الأرض.
أكيد، أن لا خوف على الفصحى. فاللغات خلقت لتواصل البشر وخدمتهم. الخوف على شعوب تزداد تمزقاً، وتبحث عن كل وسيلة تدمير ذاتي لتلجأ إليها، فيما كل المعطيات تقول: لو لم تكن الفصحى موجودة، لوجب علينا أن نوجدها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سياسة الخذلان سياسة الخذلان



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة

GMT 13:52 2016 الأحد ,20 آذار/ مارس

كريم طبيعي مزيل لرائحة العرق

GMT 08:47 2016 الإثنين ,11 كانون الثاني / يناير

البامية للوقاية من الأمراض المستعصية والاكتئاب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca