«مستجير» ما زال فى القلب

الدار البيضاء اليوم  -

«مستجير» ما زال فى القلب

خالد منتصر
بقلم : خالد منتصر

«إنه الحكيم الذى يشبه الطفل» هذا هو ما قاله الشاعر وليام كاوبر عن العالم الإنجليزى نيوتن، وهى عبارة تنطبق ربما بصورة أكبر وأدق على عالمنا المصرى الكبير وصديقى الجميل د. أحمد مستجير، الذى رحل فى مثل هذا التوقيت 2006، هذا الرجل الذى رغم إكليل الشعر الأبيض الذى يتوج رأسه، فإن قلبه ظل يحمل شقاوة الأطفال ودهشتهم وبراءتهم. الطفل ابن الثانية والسبعين عندما كان يتسلم أرفع جائزة مصرية، لمحت غلالة دموع تغلف ابتسامته التى دوماً تنضح تفاؤلاً، أراه أنا فى أحيان كثيرة غير مبرر، وكأننى أسمعه يهمس بعد أن أنهكته المسيرة الطويلة: «ياه، معقول لسه فيه حد فى مصر بيقدّر العلم والعلماء!».

أرى قامته الطويلة التى لم تنحنِ إلا للرب ولميكروسكوب المعمل، أراها تنبض بالمهابة وأيضاً بالخجل، ويده القوية الضخمة التى تصافحك فتتعطر بفتوتها، احتضنت الجميع بحميمية، وبشرته التى لفحتها شمس الوادى قرأ الكل عليها حروف العشق لهذا الوطن الذى ما زال فى القلب، رغم أن الكثيرين من حوله قد حولوه إلى مجرد ورقة بنكنوت وصفقة سمسرة، للحظة تجسدت ملامح الوطن فى ملامح وجهه، واختلطت تضاريس المحروسة بخطوط الزمن على لوحة جدارية ضخمة اسمها أحمد مستجير.

تقف هذه القامة العملاقة أمام أسئلة الحياة فى حيرة وقلق، ولكن رغم كل شىء وأى شىء لا يفقد أبداً تواضعه الجم ودهشته الطفولية التى تجعله يردّد كلمات «نيوتن»: «لست أدرى كيف أبدو بالنسبة للعالم، ولكنى أبدو لنفسى كطفل يلهو على شاطئ البحر، يتسلى بين الحين والآخر باكتشاف حصاة أنعم أو صدفة أجمل، بينما يقف محيط الحقيقة بأكمله غامضاً غير مكتشف أمام ناظرى».

ولكى يسبح د. مستجير فى محيط الحقيقة كان عليه أن يتزود بزاد يكفيه فى رحلته المنهكة المليئة بالأنواء والأمواج، وكان فى كل محطاته «الألفة» دائماً، وكما سرق برومثيوس نار المعرفة ليهديها للبشر، أعطانا الحكيم الطفل شعلة الثقافة العلمية التى نذر لها حياته، أعطاها لنا فى عشرات الآلاف من الصفحات التى خطها وترجمها قلمه وأبدعتها قريحته.

أتذكر جيداً رده المفحم على أحد الأرستقراطيين عندما شتم الهندسة الوراثية وأخذ عليها أنها تنتج لنا طماطم جامدة مش زى بتاعة زمان، فرد عليه العالم بحسم «إحنا عايزين نأكّل الناس الفقرا اللى بيزيدوا بالملايين، فلازم نعمل طماطم تستحمل، حتى لو كان طعمها مش زى زمان»، رد إنسانى قبل أن يكون رداً علمياً، فهو يبحث ويكتشف لكى يأكل الغلابة لا لكى يجعل علمه مطية لرفاهية أغنياء الحرب وأثرياء العصر الجديد، وحتى تأملاته أخضعها لمصلحة الناس البسطاء؛ ففى إحدى سفرياته على الطريق الصحراوى إلى الإسكندرية لاحظ كثافة الغاب والبوص فى الملاحات ونمو ه رغم نسبة الملح المرتفعة، فلمعت فى ذهنه فكرة زراعة القمح والأرز فى الأرض المالحة بالتهجين الخضرى مع الغاب، وحلمه بإثراء الفول البلدى بحامض الميثونين الأمينى لتقترب قيمته الغذائية من اللحم، أى أنه يريد تحويل طبلية الغلابة والحرافيش إلى سفرة البهوات والمستورين، وكان من أحلامه أيضاً إدخال جين مقاومة فيروس الالتهاب الكبدى -أكبر عدو لأبناء المحروسة- إلى الموز، وغيرها من الأحلام التى هاجسها الوحيد فقراء هذا الوطن. وحشتنى، وما أحوجنى إليك اليوم يا صديقى الطفل الحكيم.

هذا مقال سأكرر كتابته فى كل ذكرى لأستاذى وصديقى د. مستجير.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«مستجير» ما زال فى القلب «مستجير» ما زال فى القلب



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 17:22 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

أخطاؤك واضحة جدًا وقد تلفت أنظار المسؤولين

GMT 02:52 2017 الجمعة ,20 تشرين الأول / أكتوبر

العثور على أهرامات متنوّعة قبالة سواحل جزر البهاما

GMT 05:32 2018 الأحد ,03 حزيران / يونيو

"جواغوار" تطرح سيارتها طراز E-1965 للبيع 5 حُزيران

GMT 16:36 2017 الأربعاء ,20 كانون الأول / ديسمبر

العجز المالي لمولودية وجدة يبلغ 700 مليون سنتيم

GMT 15:14 2015 السبت ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

صعقة كهربائية تودي بحياة عامل بناء ضواحي مراكش

GMT 05:18 2017 الأحد ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

علماء يحددون مكان بداية مرض الزهايمر المدمر في المخ

GMT 05:42 2018 الإثنين ,03 أيلول / سبتمبر

سراييفو تعتبر واحدة من أكثر المدن إثارة في أوروبا

GMT 04:34 2018 السبت ,10 شباط / فبراير

عَرْض سيارة إلتون جون موديل 1997 الوحيدة للبيع

GMT 07:41 2017 الثلاثاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

تجميع أكبر خريطة قديمة بعد أكثر من 400 عام

GMT 04:41 2014 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

مها أمين تطرح مجموعة جذابة من تصميمات "الكروشيه"

GMT 17:30 2016 الخميس ,29 أيلول / سبتمبر

الهولندي أرين روبن يسعى للبقاء مع "بايرن ميونيخ"

GMT 03:09 2014 الجمعة ,19 كانون الأول / ديسمبر

بريطانية تنجب 4 توائم دون تدخل طبي وبعد انتظار 4 سنوات
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca