برناندينو دروفيتى: دبلوماسى وتاجر آثار!

الدار البيضاء اليوم  -

برناندينو دروفيتى دبلوماسى وتاجر آثار

زاهي حواس
بقلم : زاهي حواس

تؤدي قصة برناندينو دروفيتى إلى قمة هرم قصص لأول مرة في العالم ، شغلت أرفع المناصب ، وفي النهاية تحطمت هؤلاء ودمرت حياتهم في جميع أنحاء العالم. تلك اللعنة التي لا تترك أى من العبث ، الفراعنة العظام ، ولنا فى قصة القنصل العام الفرنسى برناندينو دروفيتى العبرة والعظة.

ولد دروفيتى فى بداية عام ١٧٧٦ فى إيطاليا التى هجرها فى سن صغيرة إلى فرنسا واستطاع ليس فقط الحصول على الجنسية الفرنسية، ولكن الانضمام أيضا إلى جيش نابليون بونابرت، وكان ضمن من جاءوا مع الحملة الفرنسية إلى مصر. انبهر دروفيتى بحجم الكنوز الفنية الملقاة على الرمال فى كل مكان بمصر، سواء فى مناطق أهراماتها العظيمة بالجيزة وسقارة أو على جانبى الوادى الأخضر بطول البلاد وعرضها وصولا إلى النوبة جنوبا.

عاد دروفيتى إلى مصر بعد رحيل الحملة الفرنسية عن البلاد لكنه عاد هذه المرة كقنصل عام لفرنسا، واستطاع فى وقت قصير أن يستميل والى مصر محمد على باشا، الذى أطلق يده فى جمع الآثار المصرية من كل أنحاء البلاد، وشحنها خارج مصر. ولم ينشغل دروفيتى بعمله الدبلوماسى قدر انشغاله بجمع الآثار بشتى الطرق المشروعة (فى وقتها!) وغير المشروعة.

بدأ فى تكوين شبكة كبيرة من العملاء والسماسرة فى الفترة من ١٨٢٠ وحتى ١٨٢٩م، بل كون فرقا للحفر عن الآثار فى مناطق سميت وقتها بمناطق الامتياز، أى التى يصرح فيها فقط له بالعمل ولا يجوز لأحد حتى مجرد الاقتراب منها!. ولنا أن نتخيل أن منطقة معابد الكرنك بالأقصر كانت داخل مناطق الامتياز الخاصة بالقنصل العام الفرنسى.

صب دروفيتى جل اهتمامه على الأقصر وأسوان، فنهب معابد ومقابر فراعنة مصر، وتعامل بكل عنف وشراسة مع كنوز الفراعنة، وكان سببا فى دمار واحدة من أهم الوثائق التاريخية على الإطلاق، ووصولها إلى الحالة المفتتة التى هى عليها الآن بمتحف تورين، وهى المعروفة باسم بردية تورين، التى تحوى حوليات الملوك الفراعنة وتسلسلهم التاريخى من بداية التاريخ الفرعونى وحتى عصر الملك رمسيس الثانى والأسرة التاسعة عشرة. ولولا جهل وطمع دروفيتى لكانت البردية فى حال أفضل بكثير مما هى عليه الآن، لكنه بالطبع كان لا يهتم بمحتوى البردية ولا أهميتها بدليل أنه باعها ضمن مجموعة من الآثار لمتحف تورين بمبلغ زهيد وهى الوثيقة التى لا تقدر بمال.

خاض دروفيتى معارك شرسة مع منافسيه من جامعى الآثار، ولم يكن يتورع عن القيام بأى شىء يزيح به منافسا له أو منازعا له على قطعة أثرية، أو فى موقع من مواقع الآثار. وكان أشهر من ناصبهم العداء القنصل الإنجليزى هنرى سولت ووكيله فى جمع التحف والأنتيكات جيوفانى بلزونى، وسوف نخصص لهما مقالا يليق بمقامهما السامى كونهما من أشهر لصوص وتجار الآثار فى تاريخ مصر.

إن عداء دروفيتى لم يتوقف عند حد كراهيته لمنافسيه، سولت وبلزونى، لكن طال أيضا مواطنه الفرنسى جان فرانسوا شامبليون، العالم الشاب الذى فك طلاسم اللغة المصرية القديمة. وبالطبع كان الخطأ الذى وقع فيه شامبليون أنه حضر إلى مصر وحصل على تصريح من محمد على لجمع بعض الآثار لمتحف اللوفر!، ولم يحترم وجود تاجر آثار محترف بدرجة قنصل عام وهو دروفيتى الذى أحس بالتجاهل فناصب شامبليون العداء ووضع أمامه العراقيل التى أفسدت مخططاته، والتى كان منها محاولة شامبليون قطع جدران مقبرة الملك سيتى وشحنها إلى فرنسا لتعرض فى متحف اللوفر!، لكن موقف باقى اللصوص، خاصة مكتشف المقبرة بلزونى ومموله سولت وحتى عدوهما دروفيتى، حال دون سرقة أجمل مقبرة ملكية فى وادى الملوك، وهكذا كان صراع اللصوص بعضهم مع بعض سببا فى إنقاذ مقبرة فرعون مصر سيتى الأول.

كانت أشرس معركة خسرها دروفيتى تلك التى خاضها ضد بلزونى وسولت حول مسلة الملكة كليوباترا الفريدة، والتى كانت قائمة أمام الصرح الأول لمعبد الإلهة إيزيس على جزيرة فيلة بأسوان. والمسلة يصل ارتفاعها إلى أكثر من ستة أمتار ونصف وتزن حوالى سبعة أطنان.

وكان دروفيتى قد دفع قيمة حماية المسله للوالى الأرناؤوطى بأسوان لمدة ثلاثة أشهر كاملة انتظارا لفيضان النيل لكى يعلو منسوب مياه النهر بالقدر الكافى لنقل المسلة، ولكن حدث أن طمع بلزونى فى المسلة بعدما سمع بخطة دروفيتى فجازف بنفسه وسافر من الأقصر إلى أسوان، وقام بتقديم الهدايا والأموال للوالى ومن حوله بل لسكان الجزيرة الذين أعجبوا بهيئة بلزونى الضخمة وشجاعته، حيث كانت بدايته لاعب أكروبات بالسيرك.

واستطاع بلزونى بعد كثير من المغامرات والمحاولات الفاشلة تحميل المسلة على ظهر مركب كاد يغرق مرتين بالمسلة عند منطقة الشلال الأول، حتى إن بلزونى وصف المشهد بأن ربان المركب جثا على ركبتيه باكيا أمامه يرجوه أن يتراجع عن نقل المسلة إلى انجلترا، حيث تقوم المسلة اليوم بميدان كنج ستون، وتعانى نقوشها الهيروغليفية واليونانية عوامل البيئة غير المناسبة لبيئة موطنها الأصلى مصر.

لم ينس دروفيتى فعلة بلزونى الذى تعرض هو ومرافقان اثنان معه لمحاولة اغتيال شنيعة فى قلب معبد الكرنك على يد رجال دروفيتى؛ بحجة أنه اقترب من منطقة امتياز القنصل الفرنسى، ونجا بلزونى من الموت بأعجوبه بعد أن انطلقت الأعيرة النارية صوبه. وصارت قضية شائكة أمام محكمة خاصة بالإسكندرية للفصل بين قنصلى فرنسا وانجلترا وعملائهما، وتدخلت الرشاوى والهدايا للشهود وغيرهم لتنتهى القضية إلى لا شىء.

استطاع دروفيتى جمع شحنات ضخمة من الآثار الفرعونية وقليل منها يعود إلى العصر الإسلامى، وبدأ التخطيط لبيع أولى تلك الشحنات إلى متحف اللوفر فى فرنسا، ولكن حدث ما لم يكن يخطر له على بال!، لقد رفض المتحف الصفقة تحت ضغط من الحكومة الفرنسية نفسها لأن شراءها يعنى اعترافا رسميا من المتحف ومن حكومة فرنسا بأن الفراعنة عاشوا قبل ٤٠٠٤ قبل الميلاد!، وهذا يعنى أن التاريخ الذى حددته الكنيسة هناك ببدء الخليقة بعام ٤٠٠٤ قبل الميلاد غير صحيح!، واضطر دروفيتى إلى بيع مجموعة الآثار إلى الملك شارلز فيليكس ملك سيردينيا. وبيعت المجموعة الثانية إلى متحف تورين بإيطاليا وهى التى كانت تضم بردية حوليات الملوك التى ذكرناها من قبل.

تقاعد دروفيتى عن العمل الدبلوماسى الذى لم يقم به فى يوم من الأيام فى عام ١٨٢٩ بسبب مشاكل صحية ونفسية، خاصة بعد موت رفيقة حياته. ولم يمكث دروفيتى طويلا بفرنسا حيث عاد للانتقال إلى مسقط رأسه فى تورين بإيطاليا، وأصيب بلوثة عقلية، بدأت تتفاقم منذ خروجه من مصر وحتى وصوله إلى تورين، ولم يكن هناك من حل سوى إيداع دروفيتى مصحة الأمراض العقلية فى تورين. كان هذا هو مصير واحد من الدبلوماسيين القلائل الذين نالوا وسام الشرف والإنجاز الفرنسى.

بعد سنوات من الحياة داخل مصحة الأمراض العقلية توفى دروفيتى فى ٥ مارس من عام ١٨٥٢، مصحوبا إلى يومنا هذا بلعنات علماء الآثار عامة وعلماء المصريات خاصة؛ لحجم التدمير الذى قام به هو وأعوانه فى كل مكان نزل به فى مصر. لكن وعلى الرغم من كل ما تقدم سيظل اسم برناندينو دروفيتى يذكر فى المراجع العلمية بوصفه واحدا من اللصوص الذين ساهموا بأعمال النهب والتجريف فى زيادة اهتمام العالم بالحضارة المصرية القديمة، وكانت أعماله بداية نهضة حقيقية من علماء هبوا لوضع حد لتجريف أرض مصر من أعظم حضارة شهدتها الإنسانية على كوكب الأرض.

بعد سنوات طويلة من وفاة دروفيتى وتحديدا بعد وفاة اللورد كارنانفون ممول مقبرة كشف الفرعون الذهبى توت بدأ الجميع وعلى رأسهم الصحفيون والمراسلون يربطون بين وفاة كارنانفون ولعنة الفراعنة.

حتى لصوص مشاهير ، والربط بين هذه الأحداث في أماكن وجودها في أماكن أخرى ، حياة دروفيتى والربط ، .

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

برناندينو دروفيتى دبلوماسى وتاجر آثار برناندينو دروفيتى دبلوماسى وتاجر آثار



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة

GMT 13:52 2016 الأحد ,20 آذار/ مارس

كريم طبيعي مزيل لرائحة العرق

GMT 08:47 2016 الإثنين ,11 كانون الثاني / يناير

البامية للوقاية من الأمراض المستعصية والاكتئاب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca