تحزب وتطرف!

الدار البيضاء اليوم  -

تحزب وتطرف

حسين شبكشي
بقلم : حسين شبكشي

توفي منذ أيام تيهت نهان هان، الراهب البوذي الفيتنامي الأصل، يعد من أهم الشخصيات الروحية في العالم بأسره عن عمر يناهز الـ95 عاماً. وكان هذا الرجل من الشخصيات الأكثر تأثيراً وفاعلية في العالم الروحي، ولديه الملايين من المريدين الطلبة من مختلف أنحاء العالم، ويعد مؤسس نظرية الآنية والاهتمام باللحظة والحاضر بدلاً من التركيز على القادم أو الماضي، ولديه أكثر من مائة مؤلف وأعداد هائلة من المحاضرات والندوات التي شارك فيها، وقابل رؤساء ومسؤولين وأكاديميين من مختلف الدول حول العالم عبر عقود حياتية طويلة، ونال مكانة مميزة جداً في حياته، وكان داعية سلام بامتياز من دون إغفال تخوينه في بلده فيتنام إبان الحرب الأهلية الطاحنة التي شهدتها البلاد وقتها؛ لرفضه الانحياز وإبداء الرأي بتأييد الشمال أو الجنوب المتحاربين، وإبقاء رأيه في مستوى مختلف تماماً عن الاستقطاب الذي يود أنصار كل طرف أن يسحبه ويجره إليه.
رغم هذه المكانة المميزة لهذا الرجل فإن أخبار رحيله بقيت من دون أي ذكر في الصحافة والإعلام العربي بصورة عامة، مما جعلني أستغرب وأندهش هل هناك موقف مسبق من المختلف والآخر الذي يختلف عنا عقائدياً وينعكس بذلك حتى على تغطية أخبار رحيله إعلامياً؟ طبعاً هذه ليست الواقعة الأولى ولا المرة الأولى التي تحدث حادثة من هذا النوع، ولكني كنت أعتقد أننا أصبحنا أكثر تسامحاً واعتدالاً كشعوب عربية بعد ما رأيناه من وقائع دموية نتاج التطرف والتشدد والإرهاب الناتجة عن ذلك كله، وبعد أن تحول العالم إلى قرية صغيرة متواصلة ومتصلة تجمعها معان وقيم وأعراف كلها تدعو إلى النبل والتسامح والاعتدال والقبول.
وطبعاً ما ينطبق على تيهت نهان هان الراهب البوذي الفيتنامي الذي رحل عن عالمنا منذ أيام، ينطبق على غيره بطبيعة الحال، فهو ليس الحالة الاستثنائية الوحيدة والفريدة من نوعها في هذا الإطار، وهو ما يجعلني أراجع مفهوم قبول الآخر والتسامح والتعايش في مفهومه الأوسع الذي ينعكس على أسلوب تفكيرنا وأسلوب تغطيتنا للأحداث وأسلوب تعاملنا مع الآخر. عالمياً يبدو أن وسائل التواصل الاجتماعي فشلت في أن تلين وتهذب أساليب التواصل والتخاطب وقبول الرأي والرأي الآخر، وحولت كل نقاش إلى معركة، وكل معركة إلى ساحة قتال، وكل ساحة قتال إلى خصوم وأعداء.
تذكرت هذا الأمر وأنا أتحاور مع صديقين في أمسية جمعتني بهما، وكان معنا إحدى الشخصيات الطبية المرموقة، وهو يحدثنا عن أحدث التطورات الحاصلة في الغرب التي تهم المصابين بمرض التصلب اللوحي المعقد والخطير، وكيف أن التطورات التي حصلت مؤخراً في استخدام الخلايا الجذعية في معالجة هذا المرض مكنت العلماء والأطباء من التوصل إلى أسلوب معالجة المرض بالكامل، وتحويل المريض الذي تمت عليه التجارب إلى مريض شفي تماماً من المرض الذي كان تحيطه كافة أعراضه، وهو اليوم يفتح باب الأمل لعلاج المصابين بالألزهايمر والباركنسون وأمراض أخرى معقدة. وكان أحد الحضور يتفاعل مع ما سمعه من كلام الطبيب، فما كان منه سوى أن قام بالدعاء للطبيب الغربي الذي كان له الفضل في اكتشاف الخلايا الجذعية في علاج مرض التصلب اللوحي والذي يفتح الباب لعلاج أمراض أخرى، وتحول الموضوع بعد ذلك إلى الاعتراض في أنه يدعو لطبيب ليس مثلنا، وأن هذا لا يجوز ولا يقبل، واستعجبت من الحوار الذي كان ساخناً ومستمراً في السخونة وكيف أنه ابتعد عن جوهر المسألة وهو نجاح الطبيب في إتاحة العيش بكرامة لمرضى بالملايين حول العالم يعانون مر المعاناة من أمراض مستعصية كتب الله الحل على يديه، وفتح الله عليه فتحاً عظيماً يفيد البشرية لأعوام وعقود وأجيال وأعمار مديدة.
مشكلة الاستقطاب ليست مشكلة محلية ولا إقليمية بأي حال من الأحوال، فالعالم بأسره يعاني مر المعاناة من زيادة الحدة في هذه المسألة التي قسمت المجتمعات إلى خصوم وفرقاء متصارعين متنافرين متحاربين، وباتت مسألة طرح أي قضية تواجه بالعديد من المواقف الحادة والتحديات الصعبة، ولكن يبقى دائماً الحكم في هذه المسائل هي القوانين الحادة والجادة والعادلة والسوية التي يحكم بها على تصرفات الناس المخالفة لتلك القوانين، ولا يمكن تجاوزها تحت أي دواعٍ عقائدية كانت أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.
التمييز والعنصرية هما أساس الخطيئة الشيطانية التي أخرجت إبليس من رحمة الله، لقوله إنه خير من آدم، وفي ذلك تمييز واضح في النظرة إلى غيره من الخلق، وهي نفس المسألة اليوم المتبعة بين العديد من الطوائف والأطياف المختلفة في مجتمعات العالم بأسره... حق المساواة وحق الحرية في هذه المساواة وعدم السماح بأي وجه من أوجه التمييز والتفريق هي التي ستحمي كلها المجتمعات والأمم، وتمكن البشر من العيش في سلام، وهي مسألة حقوقية يجب أن يسعى الجميع لحمايتها من دون النظر إلى طروحات متطرفة تساعد في شرخ هذا الجدار.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تحزب وتطرف تحزب وتطرف



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة

GMT 13:52 2016 الأحد ,20 آذار/ مارس

كريم طبيعي مزيل لرائحة العرق

GMT 08:47 2016 الإثنين ,11 كانون الثاني / يناير

البامية للوقاية من الأمراض المستعصية والاكتئاب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca