عن زمن مؤسسات الديمقراطية الفائقة

الدار البيضاء اليوم  -

عن زمن مؤسسات الديمقراطية الفائقة

إميل أمين
بقلم : إميل أمين

في نهايات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وعبر مؤلفه الشهير: «أميركا على مفترق الطرق»، كتب فرنسيس فوكوياما، المنظّر الشهير لفكرة نهاية التاريخ، قبل أن يتراجع عنها، مشيراً إلى أن المؤسسات الدولية التي ولدت بعد الحرب العالمية الثانية، قد طالتها الشيخوخة، وربما تجاوزتها معطيات الزمان، والأمم المتحدة في مقدمة تلك المؤسسات، وربما يرى البعض اليوم أن نظام بريتون وودز، الذي قام بضبط وربط شؤون وشجون العالم المعاصر مالياً بدروه بات من مخلفات ما بعد الحرب العالمية الثانية وزمن الحرب الباردة، وبالقياس نفسه منظمة التجارة العالمية.
في هذا السياق كذلك يؤخذ في عين الاعتبار أن جميعها قد أخفقت في نشوء وارتقاء عالم ديمقراطي ليبرالي فاعل وعادل، وليس ديمقراطية القوة، وليبرالية الرأسمالية المتوحشة التي سلعت البشر.
فوكوياما رأى أن الحل الواقعي لمشكلة العمل الدولي الذي يكون فعالاً وشرعياً على السواء، يكمن في إنشاء مؤسسات جديدة، وتكييف المؤسسات الموجودة لتلائم الظروف الجديدة، وأن جدول الأعمال المناسب للسياسة الخارجية الأميركية هو أن تروّج لعالم مأهول بعدد كبير من المؤسسات الدولية المتداخلة، بل وأحياناً المتنافسة، وهو ما يمكن أن يدعى متعدد الأطراف، وفي مثل هذا العالم لن تختفي الأمم المتحدة، ولكنها ستصير واحدة من منظمات متعددة تحتضن العمل الدولي المشروع والفعال.
على أنه وفي زمن الفوضى الدامية التي تتعرض لها القرية الكونية، لا يمكن لأي باحث مهموم ومحموم بحال العالم، أن يتجاوز مفكراً آخر درج على مشاغبة المستقبل وأحاجيه الساكنة في رحم الغيب باقتدار.
حين يذكر اسم جاك أتالي، فإن ذلك يعني أننا في محضر عالم مستقبليات من الوزن الثقيل، مشغول من أخمص قدميه وحتى شعر رأسه بحال العالم الذي يعيش فوضى غير مسبوقة في الآونة الأخيرة، عالم تتقاطع فيه خطوط السياسة بالاقتصاد، والعسكرية بالثقافات، ولهذا يتساءل عمن سيتمكن من تقييم الإمكانات الهائلة لكل الثقافات.
يؤكد أتالي أنه يوماً ما ستدرك الإنسانية أن من صالحها التحلق حول حكومة ديمقراطية تتولى آمال وأحلام العالم كله، متجاوزة مصالح أكثر الأمم قوة ومقدرة، حكومة تحمي من هوس صراع الحضارات، وصدام القوميات والأعراق، والبراغماتية غير المستنيرة التي تكاد تذهب بكوكب الأرض ومن عليه دفعة واحدة من جراء قصور نظر البشر، وتكالبهم على المنافع المؤقتة.
ما الذي يبشر به أتالي، وقد يكون مخرجاً مقبولاً من الجميع، لا سيما في ظل الانسداد التاريخي الآني، وغياب رؤية عولمية حقيقية تستنقذ الخليقة من وهدة السقوط الكبير المنتظر؟
يبدو أن هناك رابطاً عقلياً بينه وبين فوكوياما، وإن اتخذ مسار ما أطلق عليه «المؤسسات الديمقراطية الفائقة»، كطريق لتغيير العالم.
يستشرف أتالي واقعاً للديمقراطية الفائقة، قبل منتصف القرن الحادي والعشرين، ما يعني أن أمام العالم المعاصر عقداً أو عقداً ونصف العقد على أقصى تقدير، يعيشه في مخاض صعب، وقبل أن تتجلى تلك الديمقراطية في الواقع المؤسسي للعالم.
علامة الاستفهام المثيرة للتأمل والتي تجنب أتالي الاقتراب منها: «هل سنصل إلى تلك المرحلة عبر مقررات ومقدرات سلمية؟ أم أنه لا بد من الحرب التي توجع القلب؟».
يرى المفكر والاقتصادي والروائي الفرنسي الكبير أن البشر سيجدون أنفسهم مدفوعين في طريق التحاور حول إقامة مؤسسات كونية متناسقة، تسمح للإنسانية بعدم الانهيار تحت ضربات الإمبراطورية الفائقة، وتتفادى دمار الصراع الفائق.
لكن ما شكل أو ملامح تلك المؤسسات، وهل تتسق بدرجة أو بأخرى مع رؤى فوكوياما سابقة الذكر؟
عند أتالي أنها ستبزغ من قلب تراكم المنظمات المحلية والقومية والقارية والعالمية، وسيتساوى ويؤثر في قلبها كل إنسان بالقدر نفسه.
عالم أتالي، سوف تنشأ فيه على المستوى العالمي مؤسسات جديدة في استمرارية للموجودة الآن بالفعل، ستكون قاعدتها الأمم المتحدة، وسيعاد صياغة الميثاق الحالي للأمم المتحدة وتوسيعه ليصبح دستوراً للكوكب.
يكاد يكون طرح أتالي يوتيوبياً، ورؤية فوكوياما قريبة من الواقع، ذلك أن صياغة دستور واحد لكوكب الأرض، يعني القفز فوق الأعراق والأديان والمذاهب، وكل أشكال المحاصصات التي عرفتها الإنسانية منذ مئات وربما آلاف السنين.
غير أن إيمان أتالي بهذا الطرح يثير في نفوسنا الريبة، لا سيما أن مثل ذلك الوفاق لا يمكن أن يحدث إلا إذا ذاقت البشرية مرارة الفراق، وخاضت مرحلة ولادة جديدة مؤلمة للغاية بشكل أو بآخر وعبر تحديات بين البشر وبعضهم البعض، وربما بين الخليقة كلها من جهة والأم الأرض من جهة ثانية، وبخاصة بعدما باتت ثائرة إيكولوجياً ورافضة لافتراءات البشر عليها في القرون الأخيرة وتحديداً من عند بدايات الثورة الصناعية في أوروبا.
متى تولد الديمقراطيات الفائقة؟
الإبحار في عمق أفكار أتالي يخبرنا بأن ذلك سيحين ولا شك عقب فوضى اقتصادية ومالية، عسكرية وبيئية، ديموغرافية وأخلاقية وسياسية عارمة... هل نحن قريبون جداً؟

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن زمن مؤسسات الديمقراطية الفائقة عن زمن مؤسسات الديمقراطية الفائقة



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة

GMT 13:52 2016 الأحد ,20 آذار/ مارس

كريم طبيعي مزيل لرائحة العرق

GMT 08:47 2016 الإثنين ,11 كانون الثاني / يناير

البامية للوقاية من الأمراض المستعصية والاكتئاب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca