جروح السيد الرئيس

الدار البيضاء اليوم  -

جروح السيد الرئيس

غسان شربل
بقلم : غسان شربل

لا تقل إن هذه الحرب بعيدة ولا تعنيك. إنها أعنف زلزال يضرب «القرية الكونية» منذ عقود وبعنف يوازي سبع درجات على مقياس ريختر. هذه حرب تعني سعر القمح والرغيف الذي يحتاجه أطفالك. وسعر الغاز الذي يساعدك في مكافحة الصقيع. وسعر الوقود الذي لا بد منه لسيارتك. إننا في عالم شديد الترابط، لهذا تبدو المغامرات الدامية فيه أشبه بأوجاع قطع الشرايين.
ولا مبالغة في القول إنها حرب بوتين. فهي من تأليفه وتلحينه. وتمس بالضرورة موقع بلاده في النظام الدولي الجديد الذي قد يولد هذه المرة من كييف لا من برلين. وتمس بالتأكيد موقعه داخل بلاده وبعدها موقعه بين أسلافه على صفحات التاريخ. ولأنها حرب بوتين يصعب عليه العودة عنها أو العودة منها من دون ثمن يبرر اندلاعها. مطالبة سيد الكرملين بالانسحاب من أوكرانيا بلا ثمن وضمانات تذكر مع الفوارق بمطالبة صدام حسين بالانسحاب من الكويت بلا ثمن وضمانات. وتقول الكتب إن صاحب القرار يسقط أحياناً أسير قرار تسرع في اتخاذه وإن عجزه عن قبول جرح في صورته أو هيبته يتسبب في «عواقب وخيمة».
الصحافة مهنة ماكرة ومثيرة تحبب إلى المنخرطين فيها جمع الحكايات وعقد المقارنات رغم الفوارق بين الأشخاص والمسارح والمراحل. شاهدت الفيديو المسرب عن اجتماع لمجلس الأمن القومي عقده بوتين لبحث موضوع الاعتراف بالجمهوريتين الانفصاليتين في أوكرانيا. لفتني ارتباك مدير المخابرات الروسية وحرص بوتين على استخراج الجواب الذي يريده منه. طالبه بجواب صريح وقاطع وكان له في النهاية ما أراد. ولأنني ابن الشرق الأوسط الرهيب تذكرت ما سمعت عن اجتماعات القيادة القطرية وقول صدام إنه قادر على اكتشاف الخونة من عيونهم وبمجرد التحديق بهم.
إنها تشوهات المهنة. راودني سؤال مفاده هل كان بوتين يحمل في السنوات القليلة الماضية مشروعاً لكسر رأس أوكرانيا السلافية التي سارعت إلى خيانة البيت السوفياتي وبخلت لاحقاً على روسيا برئيس موالٍ لها في كييف.
في سبتمبر (أيلول) 1979، ترأس صدام حسين وفد بلاده إلى قمة حركة عدم الانحياز التي عقدت في بلاد فيديل كاسترو ولم يكن مضى على توليه الرئاسة سوى شهرين. على هامش القمة استقبل صدام في مقره بهافانا وزير الخارجية الإيراني إبراهيم يزدي في حضور عضو القيادة العراقية صلاح عمر العلي. بعد اللقاء الذي ترددت فيه النيات الطيبة قال صلاح لصدام إن اللقاء كان إيجابياً ويمكن البناء عليه لإزالة أسباب التوتر. استمع صدام باهتمام ثم قال: «يا صلاح انتبه. هذه الفرصة قد لا تتاح إلا مرة كل مائة سنة. الفرصة متاحة اليوم. سنكسر رؤوس الإيرانيين وسنعيد كل شبر احتلوه. وسنعيد شط العرب». وفي السنة التالية اندلعت حرب صدام ضد إيران وكان ما كان.
أنا لا أقول إن بوتين يشبه صدام. جاء الرجلان من نبعين مختلفين. ولا أقول إن وضع إيران بالنسبة إلى العراق يشبه وضع أوكرانيا بالنسبة إلى روسيا. لكن الرئيس القوي يصاب أحياناً بهاجس ثأر يأخذه بعيداً ولأنه قوي يصطحب بلاده معه.
في بداية التسعينات وفي عهد يلتسين، سألت عن اسم الرجل القوي في البلاد، وهالني جواب يقول «إنه السفير الأميركي». وحين شاهدت بزات ضباط «الجيش الأحمر» تباع بحفنة من الدولارات في شارع أربات للمشاة في موسكو، سألت نفسي عن موعد الثأر الروسي. في بداية القرن أوكلت روسيا إلى رجل اسمه فلاديمير بوتين الثأر من إقدام الغرب على اغتيال الاتحاد السوفياتي بقوة النموذج والجاذبية ومن دون إطلاق الرصاص عليه.
كان صدام حسين يحمل في روحه جرحاً اسمه «اتفاق الجزائر» الذي وقّعه في 6 مارس (آذار) 1975 مع شاه إيران محمد رضا بهلوي في حضور الرئيس هواري بومدين. تجرع صدام في الاتفاق سم التنازل عن شيء من سيادة العراق للتفرغ لإجهاض الثورة الكردية، وهو ما حصل. لكن السيد الرئيس لن يرتضي أن يسجل التاريخ أنه تنازل فأطلق الحرب ومزق الاتفاق وكان ما كان لاحقاً. وبعد الخروج منتصراً من الحرب سيحمل صدام جروح الديون مضافاً إليها جرح آخر.
في سبتمبر (أيلول) 1989، استقبل صدام أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الذي جاء مهنئاً بانتهاء الحرب مع إيران وقلده «وسام الرافدين» الرفيع. ثم فاجأ الرئيس العراقي ضيفه بورقة تتضمن نص مشروع معاهدة بين البلدين وكانت الطاولة القريبة جاهزة لمراسم التوقيع. لم يتوقع صدام أن يطلب الضيف ترك النص للمختصين في البلدين لدراسته. كظم صدام غيظه لكن الجرح استقر في روحه وفي السنة التالية أرسل جيشه لاجتياح الكويت.
لم يسلم صدام بحق الجار الكويتي في انتهاج سياسة مخالفة لتوجهات العراق. ولم يتقبل أن يطلب الرئيس العائد «منتصراً» من حربه مع إيران أن يواجه اقتراحه إبرام معاهدة مع الكويت بالرفض أو الإرجاء.
تتحول المشكلة إلى مأساة حين يحمل الرئيس القوي جروحاً كثيراً في روحه. تكاثرت الجروح في قلب الكولونيل السوفياتي الوافد من عتمة الـ«كي جي بي». جرح سقوط جدار برلين. وجرح دفع الاتحاد السوفياتي إلى المتاحف. وجرح فرار الجمهوريات من دون أن تذرف دمعة على البيت السوفياتي. وجرح تحريك حلف «الناتو» بيادقه في اتجاه حدود روسيا نفسها على وقع «ثورات ملونة» وتقاسم فظ للإرث السوفياتي. كانت خيانة أوكرانيا «أم الخيانات» لهذا راح يعد لـ«أم المعارك». مزق ثياب جورجيا وأوكرانيا. استعاد القرم وتدخل عسكرياً في سوريا. أغلب الظن أنه كان يستعد للمنازلة الكبرى على المسرح الأوكراني.
الذهاب إلى الحرب أسهل بكثير من الرجوع منها خصوصاً إذا كانت روسية وعلى المسرح الأوروبي. اصطدام الاجتياح الروسي بمقاومة أوكرانية مدعومة غربياً ينذر بعواقب عسكرية واقتصادية وسياسية وإنسانية. عواقب وخيمة. لقد أصيبت «القرية الكونية» بجرح شديد الالتهاب على مقياس ريختر.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

جروح السيد الرئيس جروح السيد الرئيس



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 17:22 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

أخطاؤك واضحة جدًا وقد تلفت أنظار المسؤولين

GMT 02:52 2017 الجمعة ,20 تشرين الأول / أكتوبر

العثور على أهرامات متنوّعة قبالة سواحل جزر البهاما

GMT 05:32 2018 الأحد ,03 حزيران / يونيو

"جواغوار" تطرح سيارتها طراز E-1965 للبيع 5 حُزيران

GMT 16:36 2017 الأربعاء ,20 كانون الأول / ديسمبر

العجز المالي لمولودية وجدة يبلغ 700 مليون سنتيم

GMT 15:14 2015 السبت ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

صعقة كهربائية تودي بحياة عامل بناء ضواحي مراكش

GMT 05:18 2017 الأحد ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

علماء يحددون مكان بداية مرض الزهايمر المدمر في المخ

GMT 05:42 2018 الإثنين ,03 أيلول / سبتمبر

سراييفو تعتبر واحدة من أكثر المدن إثارة في أوروبا

GMT 04:34 2018 السبت ,10 شباط / فبراير

عَرْض سيارة إلتون جون موديل 1997 الوحيدة للبيع

GMT 07:41 2017 الثلاثاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

تجميع أكبر خريطة قديمة بعد أكثر من 400 عام

GMT 04:41 2014 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

مها أمين تطرح مجموعة جذابة من تصميمات "الكروشيه"

GMT 17:30 2016 الخميس ,29 أيلول / سبتمبر

الهولندي أرين روبن يسعى للبقاء مع "بايرن ميونيخ"

GMT 03:09 2014 الجمعة ,19 كانون الأول / ديسمبر

بريطانية تنجب 4 توائم دون تدخل طبي وبعد انتظار 4 سنوات
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca