الرجل الذي فاجأ بوتين

الدار البيضاء اليوم  -

الرجل الذي فاجأ بوتين

غسان شربل
بقلم : غسان شربل

الصدفة التي استدعت فولوديمير زيلينسكي إلى منعطف كبير فعلت ذلك من قبل. بعد الاستدعاء تتوقف القصة على براعة الرجل وإرادته كي يصنع صورته وقصته. وأحياناً يرفع رجل أعزل سبابته في وجه إمبراطورية فيحرجها ويؤلمها ويذهب معها إلى التاريخ. ويمكن أن يسقط الرجل في الامتحان إذا اختار أسهل السبل وهي الانحناء أو السلامة والابتعاد. ويحدث أن يلتقط اللحظة كالصياد الماهر فيسدد في الوقت الملائم فيربح حتى لو هُزم أو تمكنت الطريدة من الإفلات.
ذات يوم كنت أحاور حازم جواد، الرجل الذي قاد «البعث» العراقي إلى السلطة في 1963. سألني إن كنت أعرف أن كل هالة صدام حسين بدأت بمحض الصدفة. ولأنني لم أكن أعرف روى لي. قال إن نواة من قيادة الحزب بزعامة فؤاد الركابي قررت في عام 1959 اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم. تم اختيار الفريق المكلف بالتنفيذ والمكان. قبل وقت قصير من الموعد المحدد قرر أحد أعضاء الفريق عدم المشاركة. ولملء الفراغ رشح أحد المشاركين شاباً هادئاً صلباً وقليل الكلام، اسمه صدام حسين. سارع صدام وشارك وأصيب. فر بعد المحاولة الفاشلة إلى وكر حزبي. وتقول الحكايات إنه استخدم شفرة لنزع الرصاصة من ساقه. ونجح بعد ذلك في المغادرة إلى سوريا، ومنها إلى مصر. مجرد مصادفة. لكن الحادث أعطى صدام صورة وشرعية في الحزب، استخدمهما لاحقاً في صعوده.
حين ولد زيلينسكي في العام 1978، كان شاباً في السادسة والعشرين اسمه فلاديمير بوتين يستكمل في الردهات الغامضة لعالم الـ«كي جي بي» تدريباته على العيش باسم مستعار والكتابة بالحبر السري وإتقان التضليل والبراعة في الإفلات من المطاردين. وأغلب الظن أن الشاب السوفياتي لم يكن يحلم بأكثر من ترقيات في الجهاز الذي كان مكلفاً سرقة أسرار الغرب وتجنيد الجواسيس أو اكتشافهم. ولم يدرِ في خلد الشاب أن الإمبراطورية العظيمة ستتفكك وأن الجمهوريات التي كانت محشورة في القفص السوفياتي ستسارع إلى تبديل قواميسها وثيابها وستبوح بحبها للغرب. وحين قفزت أوكرانيا من القطار السوفياتي كان زيلينسكي صبياً في الثالثة عشرة يحب تقليد الممثلين وإضحاك أقرانه. وفي تلك الأيام، استدعت الصدفة أنجيلا ميركل لتشق طريقها إلى مقر المستشارية بعدما ألقت ألمانيا الشرقية بنفسها في حضن الوطن الأم.
شهد بوتين من دريسدن انهيار جدار برلين. كان انخرط في العمود الفقري للنظام الذي دهمته الشيخوخة في الثمانينات بعد إقامة ليونيد بريجنيف الطويلة وتعاقب الجنازات في الكرملين.
لم يفعل زيلينسكي شيئاً من هذا. أحب التمثيل. وأغراه دور المهرج. ولم يشعر مرة أن التاريخ يهم باستدعائه وأن عليه الاستعداد للقيادة عند المنعطفات.
لم يكن هناك ما يدفع إلى الاعتقاد أن القدر سيستدعي الرجلين إلى مبارزة على حلبة دامية. مبارزة لا تمس نتائجها فقط صورة الرجلين وبلديهما، بل أمن العالم وتوازناته واقتصاده. ففي بدايات القرن كان بوتين منهمكاً بتضميد جروح «الروح الروسية» وترميم هيبة «الجيش الأحمر» وترويض المقاطعات وبارونات الانهيار الكبير. وفي تلك الأيام أسس زيلينسكي فريقاً ناجحاً للإنتاج التلفزيوني أسماه «كفارتال 95». وحين كان سيد الكرملين يغذي سراً حلمه بالثأر ممن دفعوا جدار برلين وإمبراطورية لينين إلى الهاوية، كان زيلينسكي منهمكاً بتدبيج مضامين ترفيهية ناجحة لمسلسلات تلفزيونية اجتماعية ساخرة ومسلية. ولما راح بوتين يلاعب قادة الغرب ويسخر من تساقطهم بفعل ضجر الديمقراطيات من رجالها ووطأة وسائل التواصل الاجتماعي، كان زيلينسكي لا يحلم بأكثر من الانتقال من المسرح إلى الشاشة. حتى حين تزايد اقتناع بوتين أن روح الأمة استدعته وكلفته مهمة تاريخية مقدسة، كان زيلينسكي منهمكاً برفع نسبة المشاهدين.
عندما استرجع بوتين شبه جزيرة القرم في 2014، لم يكن العالم يعرف شيئاً عن زيلينسكي، ولم يكن مضطراً. وحين أنزل سيد الكرملين في السنة التالية قواته في سوريا، كان الممثل الأوكراني يأسر المشاهدين بدوره في الموسم الأول من مسلسل «خادم الشعب». في المسلسل، جسّد زيلينسكي دور مدرس تاريخ بسيط تسلق السلم الاجتماعي تدريجياً حتى صار رئيساً للجمهورية بعد استخدام كلمات نابية ضد الفساد. وفي 2018 وبعد نجاح المسلسل، قرر زيلينسكي الانخراط في السياسة. وفي السنة التالية حملته الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي إلى قصر الرئاسة. واللافت أن السيد الرئيس بذل جهداً لتحسين لغته الأوكرانية، ذلك أنه ولد في منطقة أوكرانية يتحدث معظم سكانها الروسية.
لم يكن الانضمام إلى حلف «الناتو» مشروعاً ملحاً بالنسبة إلى الرئيس الذي قال إن الخطوة يجب أن يسبقها استفتاء. وكان من الصعب عليه معالجة الجروح الانفصالية في الخريطة، لأن طريق الحل تمر في موسكو.
الصدفة التي دفعت زيلينسكي إلى قصر الرئاسة أوقعته في منعطف شديد الخطورة. كان معظم العواصم تعتقد أن مناورات الجيش الروسي لن تتعدى التخويف لانتزاع تنازلات. ولم يصدق كثيرون ما راحت واشنطن تردده عن «الغزو الوشيك» مرفقاً بالمواعيد. لكن القيصر فعلها، وأوقع نفسه وبلاده والعالم في أكثر الأزمات تعقيداً بعد الحرب العالمية الثانية.
بعد انطلاق الهجوم الروسي كان باستطاعة رجل واحد إنقاذ أوروبا والعالم من عودة أشباح الحرب العالمية الثانية. كان باستطاعته إنقاذ القيصر وصورته وبلاده. كان زيلينسكي يحتاج إلى استيلاء الخوف على روحه وجسده ليسلم بشروط موسكو، أو أن يغادر ليترك لرجل آخر مهمة توقيع ما يشبه الاستسلام. وربما كان يمكن أن ينقذ القيصر لو قُتل في الطلقات الأولى وقفز الجيش لتطبيق الحل الروسي كما اشتهى بوتين. لم يفعل. فاجأ مواطنيه وفاجأ العالم. بالقميص الزيتوني أطل. قال للزعماء الغربيين المتصلين إنه يحتاج «إلى ذخائر، لا إلى بطاقة سفر». سخر الرئيس اليهودي من حديث بوتين عن مطاردة النازيين. أحرج البيت الأبيض وكل زعماء الغرب. أوقع صورة بوتين في النار التي أضرمها ومشاهد البيوت المحروقة وقوافل اللاجئين. اكتسب زيلينسكي شرعية المقاومة، وتحول بطلاً في نظر كثير من مواطنيه. بتصريحاته التي تذكر الغرب بمسؤولياته والخطر الذي يحدق بجيران بلاده، بدا زيلينسكي في صورة من يطلق النار على «فلاديمير الكبير» الذي لا يفتقر إلى صورة البطل لدى جمهور واسع في بلاده.
نادته الصدفة فذهب إلى موعده مع التاريخ. سيكون حاضراً حين يتحدث التاريخ عما فعله الرجل الذي جلس على عرش بطرس الأكبر وأطلق الانقلاب الكبير على العالم الذي اغتال الاتحاد السوفياتي وحرك بيادقه لتطويق بلاد ستالين.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الرجل الذي فاجأ بوتين الرجل الذي فاجأ بوتين



GMT 20:42 2025 الخميس ,07 آب / أغسطس

شاعر الأندلس لم يكن حزيناً

GMT 20:40 2025 الخميس ,07 آب / أغسطس

كي لا تسقط جريمة المرفأ بالتحايل

GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

جورجينا تثير اهتمام الجمهور بعد موافقتها على الزواج وتخطف الأنظار بأجمل إطلالاتها

الرياض - الدار البيضاء اليوم

GMT 18:19 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

قد تمهل لكنك لن تهمل

GMT 18:22 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر مع تنافر بين مركور وأورانوس

GMT 19:18 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحاول أحد الزملاء أن يوقعك في مؤامرة خطيرة

GMT 18:00 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تبحث أمراً مالياً وتركز على بعض الاستثمارات

GMT 12:52 2013 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

هل الدكتور دكتور والمهندس بالفعل مهندس؟

GMT 00:29 2017 الخميس ,26 تشرين الأول / أكتوبر

مشاحنات في جنازة سعيد بونعيلات بين عائلته ورفاقه

GMT 20:49 2019 الجمعة ,03 أيار / مايو

النشاط والثقة يسيطران عليك خلال هذا الشهر

GMT 05:23 2018 الجمعة ,05 تشرين الأول / أكتوبر

موديلات فساتين للمحجبات من أسبوع الموضة في نيويورك

GMT 22:09 2015 الثلاثاء ,17 شباط / فبراير

افتتاح فرع جديد من "المطعم البلدي" في مراكش

GMT 02:51 2015 الخميس ,08 تشرين الأول / أكتوبر

شاب هندي يعاني من مرض الشيخوخة المبكرة

GMT 23:51 2021 الأربعاء ,20 كانون الثاني / يناير

تفاصيل "اجتماع الأزمة" بين أبرشان ولاعبي اتحاد طنجة

GMT 20:35 2018 الجمعة ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

تطورات جديدة في قضية لطيفة رأفت ضد رئيس الوزراء المغربي

GMT 09:16 2018 الإثنين ,08 تشرين الأول / أكتوبر

بلاك شاينا أنيقة خلال توزيع جوائز "BET Hip Hop"

GMT 08:03 2018 الإثنين ,14 أيار / مايو

طرق وخطوات تطبيق "الأيلاينر الأومبري"

GMT 17:15 2017 الجمعة ,15 كانون الأول / ديسمبر

تدريبات خاصة ليوسف القديوي لاستعادة لياقته البدنية

GMT 22:47 2016 الجمعة ,18 آذار/ مارس

حلم كأس العالم يعود يا إماراتيون

GMT 17:10 2015 الثلاثاء ,20 تشرين الأول / أكتوبر

فجر السعيد تضع حدا للخلاف مع الفنانة الإماراتية أحلام

GMT 03:22 2017 الإثنين ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

إلهام البورقادي وصيفة لبطلة العالم في الكيك بوكسينغ

GMT 00:45 2017 الأحد ,24 أيلول / سبتمبر

ياسر المصري يوضح أن شخصية الزعيم ثرية جدا
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
RUE MOHAMED SMIHA,
ETG 6 APPT 602,
ANG DE TOURS,
CASABLANCA,
MOROCCO.
casablanca, Casablanca, Casablanca