الفخ الأوكراني والمفتاح الصيني

الدار البيضاء اليوم  -

الفخ الأوكراني والمفتاح الصيني

غسان شربل
بقلم : غسان شربل

كانت البراعة دائماً جزءاً من صورة فلاديمير بوتين. بدأت حينَ زجر رياحَ التفكّك وأبعدها عن الاتحاد الروسي. وظهرت جليةً حين أقنع عدداً غير قليل من حكام الغرب أنَّه صالح للمشاركة في رقصة العلاقات الدولية، وأنَّه ليس قنبلةً موقوتةً فيها. لم تتنبه قارةٌ مثل أوروبا إلى خطورة إدمان استهلاك الغاز الروسي. ولم يتنبَّه باراك أوباما إلى مدلولات لعبة سيرغي لافروف التي جعلته يتراجع عن «الخط الأحمر» في سوريا. لم تعد براعةُ بوتين تحتاج إلى دليل. استعادته شبهَ جزيرة القرم تؤكّد ذلك. والأمر نفسُه بالنسبة إلى تدخله العسكري غير المكلف في سوريا، ونجاحه في تحويل دوره هناك حاجةً سورية وإيرانية وإسرائيلية وإقليمية ودولية.
التسليم ببراعة بوتين دفع دولاً ومحللين وصحافيين إلى استبعاد وقوع الرجل في «الفخ» الأوكراني، على رغم تزايد حشود الجيش الروسي على الحدود الأوكرانية. لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ الغرب تعمَّد تناسي وعودٍ سابقة بعدم فتح أبواب «الناتو» أمام الدول التي قفزت من القطار السوفياتي. وواضح أنَّ الغربَ لم يتوقف كثيراً عند الفارق الجوهري بين روسيا بوتين وروسيا يلتسين، ولا عند عقدة الحصار المزمنة الكامنة في الروح الروسية. وعلى رغم ذلك استبعد كثيرون رؤيةَ وجبة دموية في شوارع أوكرانيا ورؤية الجيش الروسي ينهال بقذائفه على الثكن الأوكرانية والجسور والمدن.
كان الانطباع السائد أنَّ سيد الكرملين لن يغامرَ بإعادة الحرب إلى الأرض الأوروبية. ولن يوفرَ مبرراً لإعادة تنصيب روسيا في موقع العدو الأول للاستقرار الأوروبي. ولن يقدم الذريعة لإعادة إحياء شباب حلف «الناتو» الذي كاد يفقد مبررات وجوده. ولن يعطي أميركا فرصة لاستنزاف قدرات روسيا وصورتها وقطع الشرايين التي تربطها بالغرب. لم يتوقّع كثيرون رؤية دبابات روسية تحترق في شوارع المدن الأوكرانية أو على أطرافها ورؤية ملايين المدنيين يفرون من النار الروسية.
المشاهد الأوكرانية تدفع إلى أسئلة كثيرة. هل توقَّع سيد الكرملين أن يظهر الأوكرانيون مثل هذه الشراسة في الدفاع عن أرضهم؟ هل توقَّع أن تكون العقوبات الغربية بمثل هذا الشمول وهذه الحدة، وأن ترمي بوضوح إلى تدمير اقتصاده وإعادة بلاده عقوداً إلى الوراء؟ وهل توقَّع أن يدفعَ الروسي من مائدته ومستوى معيشته ثمنَ الوقوع في الفخ الأوكراني؟ وهل توقَّع أن ترجعَ آلاف النعوش من أوكرانيا إلى روسيا، وما يمكن أن تثيره في ضوء الترابط العرقي والديني والثقافي بين البلدين؟
وقع البارعُ في الفخ وأوقع العالمَ معه. المسافة هائلة بين تدخل الجيش الروسي في سوريا وانغماسه في الحارات الأوكرانية. لن يُهزمَ الجيش الروسي في بلاد زيلينسكي، لكن الاقتصاد الروسي يمكن أن يهزمَ في روسيا. نجحت الرواية الأوكرانية في التغلب على الرواية الروسية للحرب. نجح الإعلام الغربي في تظهير الأخطار المحدقة بالعالم بفعل «حرب بوتين». أوروبا تزيد ميزانياتها الدفاعية وتستعدّ للأسوأ. وعدد الجياع في العالم مرشح للتصاعد بعدما اكتشف كثيرون أنَّ أوكرانيا هي أيضاً بلاد القمح والشعير والذرة والزيوت. ارتفعت أسعار الطاقة والمواد الغذائية على مستوى العالم. استمرار الحرب ينذر بنكبة هائلة للعالم الذي كان يتململ مثخناً وحالماً بالخروج من مذبحة «كورونا». وقوع روسيا في الفخ الأوكراني سيغيرها ويغير العالم معها. سيكون الغرب مختلفاً. وستنعكس التغييرات في مسارحَ مختلفة ممَّا كان يسمى «القرية الكونية» المشغولة بالعولمة وتدافع السلع والأشخاص والأفكار.
لا يمكن التعويل على الأمم المتحدة في مساعدة العالم على الخروج من الفخ الأوكراني. سيفُ «الفيتو» مسلطٌ على عنق مجلس الأمن. وجهود الرئيس الفرنسي والمستشار الألماني لا تساعد على التفاؤل. ونداءات البابا فرنسيس لبوتين تذكّر بتساؤلات ستالين عن حجم الكتائب التي تأتمر بأوامر سيد الفاتيكان.
الحرب الروسية في أوكرانيا أكبر من قدرة العالم على الاحتمال. طحنُ المدن على القارة الأوروبية يوقظ ذكريات الحروب العالمية. شطب الدول لم يعد مقبولاً. وإخضاع الشعوب ليس يسيراً. الدَّمُ يتدفق على الشاشات. دم العسكريين ودم المدنيين ودم الصحافيين ودموع اللاجئين. وتدفق المتطوعين خبر مؤلم لأوكرانيا والعالم. من سيتحمَّل مسؤولية الأهوال التي قد يرتكبها المتطوعون الأجانب؟
رجلٌ واحدٌ دفع العالم نحو الهاوية. ورجلٌ آخرُ يستطيع مساعدة العالم على عدم التخبط طويلاً فيها. لا يحقُّ للرجل الجالس على عرش بكين أن يقرأ الأزمة الأوكرانية فقط بمنظار التطلع إلى استعادة تايوان. غرق العالم في الفخ الأوكراني سيعطي لطريق الدمار الأولوية على «طريق الحرير». مصالح الصين مع الاتحاد الأوروبي وأميركا تفوق بمرات مصالحها مع روسيا. لا مصلحة لشي جينبينغ في رؤية روسيا محاصرة وعدوانية واقتصادها ينزف. هذا الانتصار الأميركي لا يعقّد استعادة تايوان فقط، بل يعقّد الصعود الصيني. ولا مصلحة للصين في دفع ثمن تحالف مفتوح مع روسيا يؤدي إلى إقفال أسواق كثيرة في وجهها. ويمكن الجزم أيضاً أنَّ روسيا لا تستطيع من دون الصين احتمال عاصفة العقوبات التي تستهدفها.
رجلٌ واحدٌ يستطيع تحريك المفتاح الصيني لإخراج العالم من الفخ. إخراج روسيا من الدم الأوكراني. وإخراج أوروبا من المحنة الأوكرانية. وإخراج العالم من الزلزال العسكري والاقتصادي والمعيشي. تعاطت الصين مع الأزمة بمقدار من الحذر. إنَّها فرصتها للإطلال كقوة كبرى مسؤولة ولعلَّها تستفيد من الثمن الباهظ الذي سيدفعه كل الذين وقعوا في الفخ الأوكراني. لهذا ينتظر العالمُ مفتاحَ الرجل الجالس على عرش الحزب الشيوعي الصيني.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الفخ الأوكراني والمفتاح الصيني الفخ الأوكراني والمفتاح الصيني



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة

GMT 13:52 2016 الأحد ,20 آذار/ مارس

كريم طبيعي مزيل لرائحة العرق

GMT 08:47 2016 الإثنين ,11 كانون الثاني / يناير

البامية للوقاية من الأمراض المستعصية والاكتئاب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca