معاني 1982 الكثيرة: العجز والتعصّب والكذب

الدار البيضاء اليوم  -

معاني 1982 الكثيرة العجز والتعصّب والكذب

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

1982 هي السنة اللبنانيّة التي نُكثر استعادتها اليوم لأنّها أربعينيّة أشياء كثيرة. لقد توّجت تضارب المشاعر والأفكار البادئ مع نشأة لبنان. لكنّها أيضاً السنة التي أسّست سباقاً جديداً نحو الافتراق، ومن ثمّ التكارُه، لم يتوقّف ولم يفتر. كثيرون احتفلوا ببعض أحداث 1982 ومَقتوا أحداثاً أخرى، في حين احتفل كثيرون غيرهم بالأحداث التي مقتها الأوّلون ومقتوا ما احتفلوا به. عرس هذا مأتم ذاك، والعكس بالعكس. البعض رأوا في تلك السنة فرصة يوفّرها إبعاد المقاومة الفلسطينيّة من لبنان، بينما بكى آخرون التخلّص من تلك المقاومة باعتباره نهاية لكلّ الفرص. البعض راهن على مقاومة الغزو الإسرائيليّ بعدما قاوموا هم أنفسهم المقاومة الفلسطينيّة. البعض تفاءل بانتخاب بشير الجميّل رئيساً للجمهوريّة، تاركاً للبعض الآخر الاحتفال باغتيال الجميّل بعد أيّام. البعض اعتبر تأسيس «حزب الله» تأسيساً للتاريخ، والبعض اعتبره اعتقالاً لتاريخ لن يُفكّ أسره إلاّ باندحار الحزب المذكور.

المآسي التي عرفها ذاك العام جعلته أكثر الأعوام دماً وبكاءً، وفي الوقت ذاته أكثرها استهلاكاً للحلوى التي توزّع في مناسبات الأفراح والتهاني. مذّاك لم تعد لحظات الهدوء العابرة كافية لانتظار هدوء مُستدام يُبنى عليه سلام صلب: إنّها تشبه الآلام التي تنحسر في النهار لكنّها سوف تضرب في الليل من جديد.
إذن، هذه طريقة عيش اللبنانيّين. هكذا يعاش.
أشياء كثيرة تكشفها تجاربنا التي أدّى بعضها إلى 1982 وتأدّى بعضها الآخر عن 1982. لكنّ المؤكّد أنّ العنوان الأوّل هو العجز، أو الإضراب عن المعنى. فاللبنانيّون، بعد نزاعات مسلّحة امتدّت بين 1969 و1973، وبعد تلفيقات كثيرة عن مصالحة «الدولة والثورة»، لم ينجحوا في الاتّفاق حول ما بدا الاتّفاق عليه شرطاً لاستمرار حياتهم: استراتيجيّة موحّدة تؤدّي إلى إلغاء البندقيّة الموازية لبندقيّة الدولة، وضمان حصّة أعدل من السلطة للمسلمين، وحياة لائقة في لبنان للمدنيّين الفلسطينيّين. لقد جاءت إسرائيل لتنجز نصف المهمّة فانقسمنا حولها مثلما انقسمنا من قبل حول المقاومة الفلسطينيّة. حرب السنتين ثمّ حرب الجبل كانتا نُصُبي هذين الانقسامين. بعدذاك عاودنا الانقسام حين قاوم بعض اللبنانيّين إسرائيل وخاف بعضهم من هذه المقاومة. هذا الانقسام الأخير حال دون انفجاره المعلن إمساك الجيش والأمن السوريّين بعنق لبنان، وهو أيضاً كان موضوعاً انقسمنا حوله، مثلما انقسمنا لاحقاً حول اغتيال رفيق الحريري وما تلاه من اغتيالات لسياسيّين وصحافيّين وأمنيّين، وحول الدور المستفحل لـ«حزب الله» في الحياة اللبنانيّة العامّة.
في هذه الغضون، كان التعصّب والإخضاع العنوان الثاني. ما من أحد تقريباً أراد ضبط انتصاره عند حدّ معيّن حين بدا له أنّه منتصِر. عموم الموقف المسيحيّ، مدعوماً ببعض تقليديّي الشيعة، آثر عدم الاستجابة لمطالب موسى الصدر الإصلاحيّة البسيطة، فارتمى الأخير في أحضان حركة «فتح» ودمشق. عموم الموقف الإسلاميّ لم يعلن رغبته الصريحة في الانفصال عن السلاح الفلسطينيّ وتمسّكه باحتكار الدولة للسلاح، علماً بأنّ مصالحه نفسها لا يضمنها إلاّ هذا الاحتكار. أغلبيّة المسيحيّين، بعد الاجتياح الإسرائيليّ، لم تقبل إلاّ ببشير الجميّل رئيساً للجمهوريّة. سياسيّون ككميل شمعون وبيار الجميّل ما عادوا يوفون بالغرض. أغلبيّة الشيعة، بعد الثورة الإيرانيّة، لم تقبل بأقلّ من حمل السلاح أكانت هناك أرض محتلّة أم لم تكن، ولا رضيت بأقلّ من دولة كاملة المواصفات، سلاحاً وثقافةً وطريقة حياة، توازي الدولة والمجتمع اللبنانيّين وتتحكّم بهما.
أمّا العنوان الثالث، الأهمّ دائماً، فهو الكذب المشفوع بالآيديولوجيا. مع الثورة الفلسطينيّة قبل 1975 كانت للكذبة أسماء كثيرة، «قوميّة» و«اشتراكيّة» و«مناهضةً للإمبرياليّة». ما بين 1975 و1982 إذا بالمقاومة الفلسطينيّة «جيش المسلمين» الذي يرى أنّ الطريق إلى فلسطين تمرّ من مدينة جونيه المسيحيّة. الجيش اللبنانيّ شُقّ، في السياق نفسه، وأنشئ ما سُمّي جيش لبنان «العربيّ». بهذا المعنى، فإنّ 1982 كانت تحوّلاً بارزاً إذ انتهى معها الكذب «القوميّ الاشتراكيّ المناهض للإمبرياليّة» وصار الكذّاب أصدق في كذبه: المقاومة الشيعيّة مقاومة «إسلاميّة»، بعدما كانت المقاومة المسيحيّة - وهي أصلاً من خارج المحفل المناهض للإمبرياليّة - مقاومة «لبنانيّة».
إنّها أربعون عاماً من عدم الاتّفاق على مطلق شيء، ومن الاستعداد الجماعيّ لفعل كلّ شيء يمكن فعله لإذلال الآخر وإخضاعه، علاوة على تزوير الواقع بما يتيسّر من كلمات كاذبة... «حزب الله»، من هذه الزاوية، كان الثمرة الأكبر والأكثر مرارة التي تمخّضت عن تلك المأساة المتمادية والمصحوبة بما صار يقيناً أو بداهةً: نحن لن نتّفق. مبدأ «يرون ما لا نرى، ونرى ما لا يرون» انتقل مع ذاك الحزب إلى مبدأ مطلق. صرنا ننظر في الحائط المقابل فيرى كلّ منّا لوناً كليّ الاختلاف عن اللون الذي يراه الثاني.
لا باتّفاق الطائف، ولا باتّفاق الدوحة، ولا بـ«الميثاق والصيغة» قبلهما، ولا بثورة 2019 بعدهما، تستقيم أمورنا. مع هذا نحن مصرّون على أنّها سوف تستقيم. لماذا هذا الإصرار؟ حقّاً لماذا؟

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

معاني 1982 الكثيرة العجز والتعصّب والكذب معاني 1982 الكثيرة العجز والتعصّب والكذب



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة

GMT 13:52 2016 الأحد ,20 آذار/ مارس

كريم طبيعي مزيل لرائحة العرق

GMT 08:47 2016 الإثنين ,11 كانون الثاني / يناير

البامية للوقاية من الأمراض المستعصية والاكتئاب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca