لبنان: مسرح الخراب ونظام القرابة

الدار البيضاء اليوم  -

لبنان مسرح الخراب ونظام القرابة

بقلم - حازم صاغية

حين تفقد سلطة ما مبرّرات وجودها، ثمّ تصاب الثورة عليها بحشرجة وانسداد، فهذا يعني انهياراً شاملاً. هذه حال لبنان اليوم: لا سلطة ولا تغيير.
في مناخ كهذا تزدهر المخاوف، ومنها الخوف مما يسمّيه البعض «الأمن الذاتيّ». كلّ طائفة تنكفئ على منطقتها فتحميها من اثنين: من انعكاس الأزمة الاقتصاديّة الشاملة أزمة أمنيّة شاملة، ومن الآخر الطائفي والمناطقي الذي «يتربّص بنا» وقد يفكّر في «التمدّد إلى مناطقنا». المؤسّسة العسكريّة وقوى الأمن، والحال هذه، لا تعود مصدراً للحماية لأنّ انهيار أوضاعها المعيشيّة يشرخها وقد يردّها إلى أصولها الطائفيّة والمناطقيّة. احتمال وقف المعونات الأميركيّة عن الجيش اللبناني يضاعف الخطر المذكور.
بعض المتخوّفين من سيناريو رعب كهذا لديهم براهينهم عليه في بعض الأحياء الداخليّة لبيروت، كما في مناطق التجاور الطائفي في الأرياف، وفي سلاح يقال إنه يُوزّع، وفي تنظيمات يقال إنها تنشأ، وفي اجتماعات تنسيق حزبي يقال إنها تُعقد... فوق هذا، هناك ما بات معروفاً للجميع: من استفزازات شبّان الدراجات الناريّة، إلى محاولة اقتحام منطقة عين الرمّانة (المسيحيّة)، إلى شتم بعض المقدّسات (السنّيّة)، ناهيك عن هتاف «شيعة... شيعة».
وما من أحد غريب عن أورشليم. فالكلّ باتوا على بيّنة من أنّ لهذا التوتير الطائفي وظائف محدّدة: ثورة تشرين ينبغي ألا تُستأنف، ومعابر التهريب إلى سوريّا ينبغي ألا تُقفل، و«قانون قيصر» ينبغي ألا يُطبّقه لبنان، وبالطبع ينبغي ألا تظهر على حقيقتها تلك المعادلة التي تضع المقاومة في مقابل الخبز والخبز في مقابل المقاومة. ومَن يدري، فقد يتطوّر هذا الاتّجاه التمويهي إلى عمليّة عسكريّة في الجنوب فيعلو مجدّداً صوت المعركة مع إسرائيل الذي لا يُعلى عليه!
لكنْ، لماذا هذا الاستسهال الدائم، في هذه المنطقة من العالم، لـ«تحويلها طائفيّة»؟
بالعودة إلى أقلّ من عقدين فقط، نتذكّر أنّ العراق في 2003، وبعد إطاحة صدّام حسين، تكشّف عن غابة طائفيّة لم يفعل صدّام سوى كبتها وتركها تتوسّع وتحتقن في الظلّ. وأنّ لبنانيي السيادة، في 14 آذار 2005، لم ينجحوا في تقديم مثل واحد واضح عن تجاوزهم الطائفيّة. ونعرف، من وقت أقرب، أنّ الثورة السورية أمكن قلبها، بالتضامن مع وحشيّة النظام وتجاهل العالم، إلى حرب أهليّة (الشيء نفسه يصحّ، مع اختلاف في التفاصيل، في الثورتين اليمنيّة والليبيّة). لاحقاً، في 2019 و2020، ثار العراقيّون، لكنّ السنّة أبقوا أنفسهم خارج الثورة، وثار اللبنانيّون، لكنّ «حزب الله» أبقى الشيعة خارجها.
من الأمثلة الأخرى المعروفة جيّداً، والتي تعود بنا قليلاً إلى الوراء: «حزب البعث العربي الاشتراكيّ» الموصوف بالعلمانيّة، والذي طرح على نفسه «توحيد الأمّة العربيّة»، انتهى حزبين، واحداً في سوريّا بقيادة علويّة، وآخر في العراق بقيادة سنّيّة تكريتيّة. شعار المعركة مع إسرائيل جُعل، بسبب «حزب الله» وبيده، جزءاً من هويّة شيعيّة مستجدة. الأحزاب الموصوفة بالعقائديّة في المشرق العربيّ، كالشيوعي والقومي السوريّ، حافظت على وجودها المتضائل والمنحسر عبر احتمائها بهذه العصبيّة الطائفيّة أو تلك...
في وضع كهذا، تقلّ الرهانات على مكافحة الطائفيّة. التعليم والاحتكاك بالعالم الخارجي يستطيعان أن يحدّثا الطوائف أكثر كثيراً مما يستطيعان أن يقوّضاها. الطبقة الاجتماعيّة التي قد تتقاطع مع الطائفة، وقد تتمرّد في الوقت الضائع عليها، تنكفئ، في لحظات الحسم، إلى مجرّد فاعل اقتصادي لا يملك وعيه بذاته ولا قابليّته للتسييس.
السكن المتلاصق لأبناء الجماعة الواحدة، والتوكيد على الأصالة وامتلاك شجرة النسب، وغلبة زواج الأقارب، وقيم الثأر وما يرافقها من دفع فدية الدم... هذه كلّها وفّرت، منذ الأزمنة السابقة على الحداثة، المادّة الأوّليّة لنظامنا القرابي الموسّع. مع الحداثة، تكيّف الاقتصاد والتعليم مع النظام القرابيّ: الأوّل جعل الجماعات شبكات لتوزيع الثروة، والثاني قدّم الاستقبال المتفاوت للمدارس الأجنبيّة بحيث أسهمت هي نفسها في تعزيز تفاوته المعطى. أنظمة التقليديين لم تتصدّ لهذا التركيب، وأنظمة الانقلابات العسكريّة كرّسته وزادته احتقاناً.
هذا لا يعني أنّنا كنّا دائماً طائفيين: قبل مائتي سنة لم تكن هناك طوائف بمعناها الراهن. لكنّنا، مع هذا، كنّا عصبيّات عشائريّة مهّدت انقساماتها للطور الطائفي اللاحق. وهو أيضاً لا يعني أنّه محكوم علينا بالبقاء إلى ما لا نهاية طوائف. لكنّنا نطيل زمن الطائفيّة والنظام القرابي حين لا نقاومهما، ونحن لم نقاومهما. قاومنا الرأسماليّة والاستعمار والصهيونيّة والرجعيّة، لكنّنا لم نقاومهما. وحتّى اليوم، وكلّما تزايدت وطأتهما، وهما اليوم يعيشان حدّهما الأقصى، تزايدَ إصرار مثقّفينا على نفيهما أو التخفيف منهما.
والحال أنّ الآيديولوجيا الحداثيّة وأحزابها التي استولت على مثقّفينا لم تفعل سوى تحديث التقليدي عبر طرق شتّى في إنكار الواقع. وهي غالباً ما انضوت في «وطنيّة» الأحزاب الطائفيّة وسارت في ركابها كي «تقاتل الإمبرياليّة والصهيونيّة». آخر التجارب نعيشه اليوم في المواقف «التقدّميّة» من «حزب الله» ومن «حزب البعث». وآخر المسارح، حتّى إشعار آخر، قد يكون لبنان، حيث تنعدم السلطة وينعدم التغيير، ولا يبقى إلا الخراب يُنزله «الأشقّاء» بـ«أشقّائهم».

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لبنان مسرح الخراب ونظام القرابة لبنان مسرح الخراب ونظام القرابة



GMT 19:04 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

الكتابات القديمة في المملكة العربية السعودية

GMT 18:58 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

كيف غيّر «كوفيد» ثقافة العمل؟

GMT 18:52 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

ليس بينها وبين النار إلاّ (ذراع)

GMT 18:21 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى

GMT 12:18 2019 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تعرف لقاءً مهماً أو معاودة لقاء يترك أثراً لديك

GMT 19:14 2019 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

يبدأ الشهر بالتخلص من بعض الحساسيات والنعرات

GMT 11:40 2019 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تساعدك الحظوظ لطرح الأفكار وللمشاركة في مختلف الندوات

GMT 17:27 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحالفك الحظ في الايام الأولى من الشهر

GMT 20:11 2019 الأربعاء ,21 آب / أغسطس

تجنب الخيبات والارتباك وحافظ على رباطة جأشك

GMT 19:18 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحاول أحد الزملاء أن يوقعك في مؤامرة خطيرة

GMT 17:59 2019 الثلاثاء ,23 تموز / يوليو

تستاء من عدم تجاوب شخص تصبو إليه

GMT 11:31 2019 الجمعة ,29 آذار/ مارس

منع جمهور الرجاء من رفع "تيفو" أمام الترجي

GMT 08:41 2019 الأربعاء ,23 كانون الثاني / يناير

تفاصيل جديدة وصادمة في حادث قتل الطفلة "إخلاص" في ميضار

GMT 06:39 2018 الجمعة ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

"بيكوربونات الصودا" حل طبيعي للتخفيف من كابوس الشعر الدهني
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca