الديمقراطيَّة المريضة أكثر صحِّيَّة من أي لاديمقراطيَّة

الدار البيضاء اليوم  -

الديمقراطيَّة المريضة أكثر صحِّيَّة من أي لاديمقراطيَّة

بقلم : حازم صاغية


الأزمة التي تعيشها الديمقراطيّة اليوم أبرز شواغل الفكر السياسي الراهن.
كيف العمل لإنقاذ الديمقراطيّة؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه البعض في مواجهة سؤال آخر يطرحه بعض آخر: كيف العمل للإجهاز عليها؟
السؤال يتناول أشكال التمثيل الشعبي وصِيَغه، والتفاوت الاقتصادي ودور المال، لا سيّما في ظلّ النيو ليبراليّة، كما يتناول الشعبويّة وتركيبة النُخب السياسيّة، وأثر التواصل الاجتماعي و«الأخبار الزائفة»...
لكنْ، مع هذا، ينبغي ألا ننسى أنّ أهل هونغ كونغ يتظاهرون من أجل توسيع هامش الديمقراطيّة اليوم. ومثلهم يطالب كثيرون في روسيا، وليس للمرّة الأولى، بانتخابات نزيهة وشفّافة. يحصل هذا وذاك إبّان الذكرى الثلاثين لسقوط حائط برلين؛ أكبر انتصارات الديمقراطيّة في القرن العشرين بعد سقوط النازيّة. فإذا أضفنا المقارنة بين كوريا الشماليّة وكوريا الجنوبيّة، أمكننا القول إنّ المحنة الراهنة للديمقراطيّة شيء، وتفوّقها على سائر الأنظمة شيء آخر.
هذا ليس عزاء بالطبع. إنّه بالأحرى إشعار بخطورة الانهيار الديمقراطي الذي لن يرثه إلاّ العدم المصحوب بالطغيان.
فلنسترجع بعض ما نشاهد أو نتذكّر:
في برلين 1989 كان سقوط الجدار سقوطاً لطريقة في الحكم وفي التفكير. لقد بنى النظام الشيوعي في الشطر الشرقي ذاك الجدار «كي يحمي الاشتراكيّة من التأثيرات الضارّة للرأسماليّة». 
أفراد من ألمانيا الشرقيّة السابقة هربوا إلى عقر دار تلك «التأثيرات الضارّة»، مع أنّ الموت كان احتمالاً كبيراً. وحين تسنّى لهم أن يهدموا الجدار ويعانقوا «التأثيرات الضارّة»، وينتسبوا إليها، فعلوا ذلك بحماسة.
ما حصل في ألمانيا الشرقيّة كان جزءاً من ملحمة تاريخيّة سقط بموجبها نحو من عشرة أنظمة وصعد بموجبها نحو من عشر ديمقراطيّات. الاستفتاء كان باهراً لمصلحة طريقة في الحياة ضدّ طريقة أخرى.
في هونغ كونغ مئات الآلاف يتظاهرون منذ أشهر، وقد نجحوا في تعطيل مرافق بالغة الحيويّة كالمطار الدوليّ. هؤلاء الذين تسمّيهم بكين «مخرّبين» و«إرهابيين»، وتردّد أنّ قوى خارجيّة تحرّكهم، بدأوا اعتراضهم على محاكمة أبنائهم في البرّ الصينيّ، وبموجب قوانينه، لكنّ اعتراضهم راح يتنامى ليشمل العلاقة بهذا البرّ الذي يحكمه الحزب الواحد. حنينهم إلى ماضي العلاقة ببريطانيا، بسبب ما انطوت عليه من حرّيّات، أقوى بلا قياس من ولائهم لحاضر العلاقة القوميّة بالصين. لهذا يتوقّع كثيرون ألا «يُعالَج» الطلب على الحرّيّة إلاّ بالعرض الموسّع للقمع.
في كوريا أيضاً تجاورت طريقتا الحياة منذ تجزئة 1945. في البداية حلّ في الشمال نظام استبدادي اشتراكي وفي الجنوب نظام استبدادي رأسماليّ. لكنْ في 1987 انتقلت كوريا الجنوبيّة، وقد قطعت شوطاً في الازدهار الاقتصاديّ، إلى الديمقراطيّة، بعدما سبقتها الفلبين بعام ثمّ لحقتها تايوان بعام. أمّا كوريا الشماليّة فأسّست نظاماً «اشتراكيّاً - وراثيّاً» ما لبثت أن قلّدتها فيه «سوريّا الأسد». الإفقار إلى درجة المجاعة، وعبادة السلالة الحاكمة، وقهر ملايين المحكومين وعزلهم عن العالم، ومزاعم الاكتفاء الذاتيّ... سارت جنباً إلى جنب مع السلاح النووي «لحماية» وضع لا يستحقّ إلاّ أن يموت.
من هذه الدولة المسخ يهرب المنشقّون أيضاً، الذين لا يُوفّقون في الوصول إلى كوريا الجنوبيّة، أو الذين تعيد الصين تسليمهم إلى الشمال، ينتهي بهم المطاف في مخيّمات «إعادة التأهيل» أو إلى منصّة الإعدام.
إنّ المقارنة لا تخطئ: مع كلّ احتكاك بين نظامين؛ ديمقراطي وغير ديمقراطيّ، كانت «الجماهير» تختار الديمقراطيّة. عندنا، في منطقتنا، لم يحصل احتكاك كهذا، لكنْ حصل أن تجاور نظامان استبداديان، واحدٌ أكثر استبداديّة ودمويّة وأدلجة من الآخر. هذا ما كانت عليه الحال بين اليمنين، يوم كانا يمنين قبل أن يتّحدا في 1990. حينذاك جاءت الوحدة نتيجة لانهيار النظام الجنوبي الذي سمّى نفسه «ماركسيّاً - لينينيّاً» بعدما غرق وأغرق البلاد في مستنقع دمويّ. حتّى نظام علي عبد الله صالح بدا طُموحاً للجنوبيين الذين اعتبروا أنّ استبداده العشوائي أشدّ رحمة من استبداد نظامهم المنظّم و«العلميّ».
وفي المشرق العربي شهدنا تحالفاً ضدّ الديمقراطيّة عاش طويلاً ولا يزال، بين الحريصين على العقائد الصافية والحريصين على الامتيازات الصافية. 
الأوّلون قالوا إن الديمقراطيّة زائفة لأنّها بورجوازيّة ولأنّها قد تكون ذريعة لغزو استعماريّ. والأخيرون قالوا أشياء مشابهة وأضافوا أنّها نبْتة غريبة لا تُستَزرع في بيئاتنا ذات الخصوصيّة المغايرة. في ظلّ أكاذيب كهذه، حكم صدّام حسين العراق ما بين 1968 و2003، وحكم حافظ الأسد سوريّا ما بين 1970 و2000، ثم ورّث نجله الذي لا يزال يحكم فوق أطلال شعبه وبلده.
والحال أنّ الديمقراطيّة تمرض، وهذه هي حالها الآن، كما يرافقها استغلال واستلاب، وتاريخها مثقل بالعنف والاستعمار، وثمّة من يقول إنّها تسحق الفرد بمؤسّسات رقابة تمتدّ من المستشفيات إلى السجون إلى البرلمان... لكنّها، حتّى إشعار آخر، خير النُظم السياسيّة التي أنتجتها البشريّة لأنّها وحدها تتيح نقد نفسها ومراجعتها. إنّها، بحسب تلك العبارة المنسوبة إلى تشرشل والتي ابتُذلت لشدّة تكرارها: «أسوأ شكل في الحكم بشرط أن نستثني جميع الأشكال الأخرى».

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الديمقراطيَّة المريضة أكثر صحِّيَّة من أي لاديمقراطيَّة الديمقراطيَّة المريضة أكثر صحِّيَّة من أي لاديمقراطيَّة



GMT 11:31 2019 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

كتب جديدة للقارئ في معرض الشارقة الدولي

GMT 11:26 2019 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

كتب أخرى للقارئ العربي

GMT 05:03 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

دسائس البلاط

GMT 05:01 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

اللبنانيون يأملون.. لكن بخوف وحذر!

GMT 05:00 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

ثورة في لبنان في عهد "حزب الله"

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة

GMT 13:52 2016 الأحد ,20 آذار/ مارس

كريم طبيعي مزيل لرائحة العرق

GMT 08:47 2016 الإثنين ,11 كانون الثاني / يناير

البامية للوقاية من الأمراض المستعصية والاكتئاب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca