... عن الفهم الإيراني لحدود البلدان واستقرارها: الوعي المحافظ الأسوأ

الدار البيضاء اليوم  -

 عن الفهم الإيراني لحدود البلدان واستقرارها الوعي المحافظ الأسوأ

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

قبل أيّام قليلة تصرّفت إيران تصرّف القوى الضامنة لحدود الدول واستقرارها. بحسب ما نقلته وكالة الأنباء الألمانيّة، أكّد المتحدّث باسم وزارة خارجيّتها سعيد خطيب زاده، أنّ بلاده «تعارض أي نوع من الإجراءات العسكريّة واستخدام القوّة في أراضي الدول الأخرى بهدف فضّ النزاعات، لأنّه يشكّل انتهاكاً لوحدة الأراضي والسيادة الوطنيّة لتلك الدول، وسوف يؤدّي إلى مزيد من التعقيد والتصعيد».
تصريحه هذا جاء ردّاً على سؤال حول احتمال قيام تركيّا بعمل عسكري في الأراضي السورية أو العراقيّة، وهو ما أنذر به الرئيس التركي إردوغان. وبما يضفي مزيداً من الرصانة الدبلوماسيّة التي يحرص عليها في العادة دبلوماسيو الدول الكبرى، سجّل خطيب زاده تقدير إيران لـ«الهواجس الأمنيّة لدى تركيّا»، لكنّه استدرك «أنّ السبيل الوحيد لحلّها يكمن في الحوار والالتزام بالاتفاقات الثنائيّة مع دول الجوار، بالإضافة إلى التوافقات الحاصلة خلال مفاوضات آستانة، ومنها احترام وحدة وسلامة أراضي سوريا والسيادة الوطنيّة لهذا البلد، والامتثال إلى مبدأ عدم اللجوء إلى القوّة».
تابع زاده مضيفاً إلى حكمة الدبلوماسيّة حكمة التاريخ: «إن التجارب على مرّ السنوات الأخيرة أثبتت أنّ استخدام القوّة العسكريّة ضدّ سائر الدول لم يساعد على حلّ المشاكل معها، وإنّما يؤدّي إلى تداعيات إنسانيّة مثيرة للقلق، ومزيد من تعقيد الأمور في المنطقة».
عين الصواب. فإن تتجاوز تركيا مجدّداً حدودها الجنوبيّة، مع سوريا والعراق، مستهدفة الكرد في البلدين، علاوة على استهدافها سيادة البلدين، لا يمكن إلا أن يكون خطيراً ومقلقاً.
والحال أنّ أنقرة، رغم انهيار السلطنة قبل قرن ونيّف، لم تفارقها عقليّة سلطانيّة تستبطن النظر إلى جوارها كما لو أنّه جزء منتزع منها، جزءٌ تحتفظ بـ«شرعيّة» العمل على «تأديبه» حين تقتضي «مصالحها» أو «أمنها القومي» ذلك. ونعرف أنّ روسيا، ذات الوعي الإمبراطوري، تكاد لا تتصرّف إلا بموجب هذا التقليد، وحربها الراهنة في أوكرانيا برهانٌ قاطع.
إيران الخمينيّة، في المقابل، وضعها يختلف. إنّها، باستثناء العراق، لا تملك حدوداً مشتركة مع البلدان العربيّة، كما أنّ الأخيرة لم تكن، في التاريخ الحديث، جزءاً من إمبراطوريتها. صحيح أنّ طهران لن تفرّط بما ضمّته في حقب سابقة، أكان المقصود الجزر الإماراتية الثلاث في الخليج التي احتلّها الشاه في 1971، أم الأحواز (خوزستان،عربستان) التي انتزعها رضا خان في 1925 من خزعل جابر الكعبيّ، آخر حکّام الکعبّن. لكنّ الصحيح أيضاً أنّها تستلهم في نشر نفوذها الأدوات الحزبيّة والدعويّة أكثر مما تستلهم المخيّلة الإمبراطوريّة. بهذا المعنى، إذا كان الوعي التركي الراهن يشبه الوعي القيصري – البوتيني في روسيا، فإنّ الوعي الإيراني الراهن يشبه الوعي السوفياتي.
وهذه استراتيجيّة مواتية لأنّ إيران تستحوذ على أدوات محلّيّة قويّة، تماماً كما استحوذ الاتّحاد السوفياتي على الأحزاب الشيوعيّة في بلدان بعيدة جغرافيّاً عنه. وهي استطراد تملك دعوة آيديولوجيّة سبق للاتّحاد السوفياتي أن امتلكها فيما لا تمتلكها تركيا.
وبنتيجة أربعة عقود في لبنان، وعقدين في العراق، وعقد في سوريا واليمن، نجحت إيران وأدواتها المحلّيّة في أن تقيم استقراراً ما هو بالضبط مأسَسَة عدم الاستقرار على شكل حروب أهليّة وإقليميّة قائمة أو محتملة. وفي المحصّلة صار الحفاظ على الدول وحدودها مفيداً لطهران ما دام أنّ هذه الدول قد جُوّفت من داخلها، فيما الحدود لم تعد تحدّ البلدان إلا كما تحدّ خطوطٌ من ماء أشكالاً هندسيّة مؤقّتة. أمّا تخريب الدول والحدود، في المقابل، فيهدّد الواقع الذي باتت إيران تألف التعامل معه والسيطرة عليه. إنّه يهدّده بإدخال قوى جديدة غير محسوبة إليه أو إخراج قوى قديمة محسوبة منه. في سوريّا مثلاً لا حصراً، تعوّدت إيران على العيش في جوار روسيا التي تشاركها دعم الأسد، وفي تساكُن من بعيد مع الولايات المتّحدة التي تشاركها «الحرب على الإرهاب»، وفي حرب مضبوطة نسبيّاً مع إسرائيل. أمّا إذا دخلت تركيّا على الخطّ، فيما خرجت روسيّا، فهذا سوف يخلط أوراقاً كثيرة ينبغي على إيران أن تعاود التكيّف معها: ففضلاً عن الدور الجديد لأنقرة، سيتزايد ضمور بشّار الأسد، وقد تفلت الحرب الإسرائيليّة الإيرانيّة من كلّ عقال بعد تعطّل التوسّط الروسيّ...
شيء مشابه يمكن قوله عن لبنان أو العراق أو اليمن، حيث في هذه البلدان جميعاً يُستحسَن إيرانيّاً ألا يدخل عامل جديد وألا يخرج عامل قديم: فلا الثورات ولا الانتخابات مرحّب بها، ولا تطوّر العلاقات مع قوى سياسيّة أو مع داعمين اقتصاديين أو مع أفكار وتصوّرات مستجدة... فلتبق الأمور كلّها، إذن، على الحال الذي استقرّت عليه من حول العمود الفقري الناظم الذي هو الهيمنة الإيرانيّة.
هكذا فإنّ الاستقرار المرغوب، بعدما تحقّق لإيران ما تحقّق، هو بالضبط استقرار البلدان على تصدّعها وتخشّبها الراهنين. وهذا، رغم كلّ الضجيج الثوريّ، مشروع محافظ جدّاً يدافع عن أوضاع رديئة يخجل أقصى المحافظين من الدفاع عنها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

 عن الفهم الإيراني لحدود البلدان واستقرارها الوعي المحافظ الأسوأ  عن الفهم الإيراني لحدود البلدان واستقرارها الوعي المحافظ الأسوأ



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة

GMT 13:52 2016 الأحد ,20 آذار/ مارس

كريم طبيعي مزيل لرائحة العرق

GMT 08:47 2016 الإثنين ,11 كانون الثاني / يناير

البامية للوقاية من الأمراض المستعصية والاكتئاب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca