أخر الأخبار

الواقع بالأبيض والأسود

الدار البيضاء اليوم  -

الواقع بالأبيض والأسود

آمال موسى
بقلم - آمال موسى

إن طبيعة العلاقة مع الواقع محدد مهم يكشف عن أشياء كثيرة تمثل بدورها أساس بناء استنتاجات حول الثقافة المنتجة لمضمون تلك العلاقة ونمطها. لذلك فإن هذه المسألة لا يستهان بها رغم أنها تختبئ في تفاصيل العلاقات وقلّما تكون بارزة. وهنا لا بد من التوضيح أنّه لا توجد علاقة واحدة مع الواقع بقدر ما هنالك علاقات. وأهم ما يمكن الوقوف عنده هو أن العلاقة التي تبنيها المجتمعات أو الأفراد، هي نتاج ثقافة وتنشئة اجتماعيّة كاملة ومن ثم فهي خلاصة تراكم علاقات أجيال مع الواقع، الأمر الذي أدى إلى تجذر خصائص وسمات تسهم بدورها في إعادة إنتاج العلاقة وتمظهراتها الكثيرة الواحدة.
وفي الحقيقة فإننا نتوقف عند مسألة طبيعة العلاقة مع الواقع لاعتبار أهميتها أولاً ودورها بالدفع للمجتمع نحو التقدم والتجاوز والإنجاز أو عكس ذلك ثانياً.
أيضاً هناك نقطة في ارتباط وثيق بالموضوع المطروح، وهي أن العلاقة بالواقع تحدد علاقاتنا بكل شيء. بل إنّها تتجاوز ذلك إلى ما يتصل بإنتاج القيم وتحديد كيمياء المعاني والمدلولات في اللغة. وإذ نلفت الانتباه إلى هذه الجوانب فلكي نبيّن مدى جوهرية خصائص العلاقة بالواقع.
وكثيراً في لقاءات تبادل الخبرات مع تجارب مجتمعات ونخب أخرى، نلاحظ الاختلاف في مقاربة مشكلات معينة، وهي ظواهر نعاني منها في الفضاء الثقافي العربي والإسلامي. وأتذكر جيداً كيف أنه في أحد اللقاءات رفيعة المستوى، تناولت شخصية بارزة ومسؤولة قيادية في بلد متقدم تجربة بلادها في مجال تمكين المرأة. وما استرعى اهتمامي أنها لم تذكر المنجز ولم تتباهَ بما حققته بلادها ولم تستعرض الأمجاد والقصص الناجحة، بل إنّها تركت كل المنجز جانباً وتحدثت بصوت واثق ونبرة جادة عن مشكل التمكين السياسي وضعف وصول نساء بلادها لمواقع القرار، مبرزة أن 7 في المائة فقط من نساء بلادها يشغلن مناصب قيادية، معبرة عن حيرة تجاه ما وصفته بضعف وجود النساء في مواقع القرار، والحال أن 66 في المائة من خريجي الجامعات لديهم فتيات. اللافت للانتباه هو التعاطي الصادق مع الواقع والاهتمام بالمشكل كما هو من دون لجوء للتزويق والحديث عن الإنجازات رغم وجودها. فالشعوب المنجزة تضع كل تركيزها على ما لم ينجز بعد لأنه جدير بكل الطاقة قبل أن يتحول إلى منجز.
بالنسبة إلى ثقافتنا العربية يمكن القول إننا نتعالى على الواقع ونمارس ضده نوعاً من الإنكار. بمعنى آخر، فإننا نهرب من مواجهة الواقع وأحياناً نؤجل المواجهة إلى تاريخ غير محدد. نجد صعوبة في تسمية الأشياء بأسمائها وهذا مشكل بنيوي عميق. ويبدو لنا أن عدم معالجة هذه المسألة سينعكس سلباً على الواقع نفسه باعتبار أن العلاقة به عنصر مهم في بلورته وتشكيله.
لذلك لا بد من التحلي بشجاعة المواجهة وبناء علاقة جديدة مع الواقع، وهو أمر يمثل أحد أهم بنود التغيير الثقافي وإعادة هندسة النظام الفكري والثقافي العربي. فنحن نلتجئ إلى الغيبي ونميل إلى التفسيرات الرمزية الميتافيزيقية مما طبع العلاقة بالواقع بالمسافة والتعالي والإنكار. وكما نعلم فإن هذه المسألة تعني أيضاً صعوبة توخي الموضوعية وامتلاك ناصية المنهج العلمي في التعامل مع الموجودات والواقع.
أيضاً هناك نقطة من شأنها أن تفسّر لنا تعقد العلاقة مع الواقع، وهي تسييس الواقع أي هيمنة السياسة على الواقع في العقود الأخيرة، الأمر الذي جعل الواقع محكوماً بعمليات مونتاج وتجميل مستمرة؛ لأن الفهم السياسي الغالب كان يرى في إظهار مشكلات الواقع وثغراته ضربة للسياسي واتهاماً بالتقصير. لذلك كان هناك نوع من الريبة في التعامل مع أرقام البطالة والفقر والأميّة وغيرها، حيث كان يعتقد السياسيون أن الجهر بواقع البطالة والفقر وإعلان الأرقام الصحيحة مسألة ليست في صالحهم. وهكذا أضرت السياسة كثيراً بكيفية بناء العلاقة مع الواقع؛ إذ إن الواقع الذي يصل للمواطن كان يفتقد كثيراً من المصداقية.
حالياً، أو لنقل بأكثر دقة في العشرية الأخيرة، بدأت بلدان عربية عدة تعرف إصلاحات جوهرية وعرفت بعض من البلدان ثورة، وكلها مؤشرات تفيد بالمخاض الذي باتت تعرفه العلاقة بالواقع. وهنا لا يفوتنا دور الإعلام وتحديداً وسائل التواصل الاجتماعي التي أخذت على عاتقها في بلداننا خاصة، تضخيم الواقع والاقتراب منه بشكل حوّله إلى شاشة عملاقة لما هو كبير وتفصيلي من الظاهر والمشكلات. فمع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وإقبال مجتمعاتنا الجارف على استعمالها فإنه لم يعد ممكناً تجاهل الواقع أو تجميله أو إخفاء جزء منه، وهو أمر أنتج تحولاً قسرياً في العلاقة بالواقع وفي التعامل معه وفي الاعتراف به. ومثّل هذا المنعرج ضغطاً إيجابياً نعتقد أن إيجابياته ستكون كثيرة وأولها قراءة الواقع بالأبيض والأسود.
إن مشكلات كثيرة وكبيرة تملأ الواقع العربي اليوم ولا مفر من تغيير علاقتنا بالواقع والانتقال بخطى أكثر سرعة وموضوعيّة في تسمية كل شيء باسمه ووصف الواقع ومحتوياته بالأوصاف الدقيقة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الواقع بالأبيض والأسود الواقع بالأبيض والأسود



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 04:15 2016 الثلاثاء ,18 تشرين الأول / أكتوبر

مايا نصري فتاة شعبية تدخل كل بيت مصري بـ "قسطي بيوجعني"

GMT 00:39 2017 الثلاثاء ,05 كانون الأول / ديسمبر

المرابطي يتوج بلقب ماراثون الرمال في البيرو

GMT 16:56 2017 الجمعة ,01 أيلول / سبتمبر

"توليب ان" من أفضل 5 فنادق في الطائف

GMT 18:55 2019 الجمعة ,22 آذار/ مارس

زايد وراشد.. التحدي والإنجاز

GMT 15:23 2018 الثلاثاء ,17 إبريل / نيسان

كاف ترفض مقترح الوداد بدوري أبطال أفريقيا

GMT 10:12 2017 الإثنين ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

مسيرة غضب في مدينة بني درار بسبب مقتل أحد أبنائها

GMT 20:57 2016 الأحد ,17 كانون الثاني / يناير

سيلفي تجمع محمد كريم و كيت وينسليت على "إنستغرام"

GMT 21:16 2017 الأربعاء ,06 أيلول / سبتمبر

جزائريون يقودون حملات لوقف الإبادة ضد مسلمي بورما

GMT 04:48 2017 الجمعة ,23 حزيران / يونيو

"كابتور" سيارة عائلية بألوان جديدة وتصميم معقد

GMT 10:06 2018 الثلاثاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

ساناكويف يكشف غموض الأعمدة الملونة في روسيا

GMT 07:10 2018 الأحد ,07 تشرين الأول / أكتوبر

تقنيات واعدة لمنع تطور نخر رأس الفخذ

GMT 23:19 2018 الجمعة ,20 إبريل / نيسان

"لغة الجسد" أكثر صدقًا من تعبيرات الوجه

GMT 14:10 2017 الأحد ,03 كانون الأول / ديسمبر

الريان القطري يفقد جهود حمدالله بسبب الإصابة
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca