جدالات السياسة والهوية

الدار البيضاء اليوم  -

جدالات السياسة والهوية

عبدالله بن بجاد العتيبي
بقلم : عبدالله بن بجاد العتيبي

جدالات السياسة الفكرية لا تنتهي، وصراعتها الواقعية لا تنقضي، والسياسة مصنعٌ تختلط فيه كل عناصر القوة لتُوظف في الصراعات لخدمة الدولة ومصالحها والشعب وطموحاته، ومن دون وعي حادٍ بعناصر القوة الذاتية وأبعادها وإمكانات توظيفها بالمدى الأقصى تستمر بعض الدول من دون تطويرٍ أو طموحٍ، بينما تتوثب أخرى وتتطور بلا سقفٍ ولا مدى.
يحسب بعض المنغمسين في الواقع ومشكلاته والإدارة ومعضلاتها والإنجاز ومسؤولياته أن جدالات الأفكار ونقاشات الهوية ترفٌ وتنظيرٌ غير مفيدٍ ولا مجدٍ، وأن الأفضل تركه والانشغال بالعمل، وهذا خطأ كبير وخطير، فبلا تنظيرٍ ورؤية ومن دون علمٍ مكينٍ ووعي ثاقبٍ يسهل اختطاف الدول والشعوب والمجتمعات، والأمثلة لا تحصى في كل زمانٍ ومكانٍ.
لتقريب الصورة أكثر، فإن الصراع الإقليمي الدائر في منطقة الشرق الأوسط منذ عقودٍ لم يكن صراعاً سياسياً فحسب، بل هو صراعٌ على الهوية قبل كل شيء، صراعٌ على من نحن؟ ولماذا نحن مختلفون؟ وأين سنذهب؟ ما علاقتنا بجيراننا؟ وبالعالم؟
كانت حروب أوروبا العالمية قائمة على صراعات «الإمبراطوريات» و«القوميات» التي تجيب عن تلك الأسئلة في السياق الأوروبي، ووصل بعضها إلى شعوب الشرق الأوسط، وأصبحت تقدم إجابات مختلفة بحسب كل قومية أو دولة أو تيار، فتخلت تركيا عن «الخلافة الإسلامية»، وأقامت الدولة «التركية» القومية، وتململت إيران كثيراً حتى وصلت قبل أربعة عقودٍ لتعريف نفسها بـ«الثورة الخمينية» أو «الشيعية» بنسخة الإسلام السياسي، وتاه العرب دولاً وتياراتٍ بين «اليسار» و«الشيوعية» وبين «القومية» بتفرعاتها «البعثية» و«الناصرية» وبين «الإسلام السياسي» بتفرعاته، ودخلت إسرائيل من قبل لتربك المشهد وتعيد بعثرة الأوراق المبعثرة أصلاً.
طبيعة الصراعات على «الهوية» داخلياً وعلى المستوى الإقليمي والدولي أنها لا تنتهي، بل هي متجددة دوماً، وتركيا «العلمانية» والقومية عادت على مراحل لتبني نسخة من «الإسلام السياسي»، وإيران بعد الثورة على «الملكية» و«الشاه» من تياراتٍ شيوعية وقومية رست على «الخمينية»، وكثيرٌ من الدول العربية شهدت انقلاباتٍ عسكرية ضد «الملكيات» في مصر والعراق وليبيا واليمن وسوريا، شعارها واحدٌ وإن اصطرع الرفاق لاحقاً.
في هذه الصراعات الفكرية الطاحنة والعميقة التي تصطرع على «الهوية» بكل مفرداتها قامت الحروب وسقطت الدول وسالت الدماء، بينما بقيت دول الخليج العربي ثابتة في ظل هذه الصراعات، ونجت من تبعاتها الضخمة وآثارها المدمرة، وهي تتلمس طريقها للبناء على «هوية» راسخة من جهة، ومتطورة بطبيعتها من جهة أخرى، ومن تخلف عن تطوير الهوية تخلف عن بناء عناصر القوة والتأثير.
للتذكير والمفارقة، فسوريا انقلبت على «الملكية»، ثم تقلبت بين فرقاء «القومية» العربية، حتى سيطر نظام «البعث العربي الاشتراكي»، ثم تحولت إلى نظامٍ «عائلي» مذهبي أقلوي باطشٍ، واليمن انقلب على «الإمامية» الملكية بأنظمة قومية حتى سيطر الرئيس علي عبد الله صالح، فتحول إلى نظام «عائلي» تحالف مع «الحوثي» لخلق نظامٍ هو أسوأ بكثير من النظام «الإمامي».
هذا السرد المختصر لإيضاح أن جدالات الفكر ونقاشات «الهوية» ليست ترفاً ولا «تنظيراً» فارغاً، بل هي أحد أكبر الأسس التي تبنى عليها الأمم والدول، والشعوب والمجتمعات، وأن الجهد العلمي والبحثي والجدل الفكري حولها هو أمرٌ مستحقٌ وله أولوية قصوى.
في محاضرة ألقاها الأستاذ مشاري الذايدي، في مركز إبراهيم آل خليفة بالبحرين، الأسبوع الماضي، كان موضوعها «من نحن؟ أسئلة حول هوية إنسان الجزيرة العربية»، طرحٌ جادٌ لتساؤلاتٍ ملحة في هذا السياق، تستدعي التعليق والمناقشة، وقد أشار فيها لبعض أفكار ورؤى ولي العهد السعودي في «رؤية السعودية 2030» تجاه مسألة «الهوية» وتصريحاته المتعددة التي لم تحظ بعد بالتحويل لمشاريع توازي المنجزات التنموية المذهلة.
بعض عناصر الهوية السعودية يمكن إجمالها في «الإسلام» و«العروبة» و«الوطنية»، وعن «الإسلام» تحدث الأمير مراراً وتكراراً عن العودة للإسلام الأول بعيداً عن مشاحنات التاريخ وتشويهات المؤدلجين واعتداءات المتطرفين، وقدم رؤية أكثر تفصيلاً في مجالات مرجعية «القرآن الكريم» و«السنة» المتواترة ودور «ضرورات» الحياة و«حاجات الناس» في بناء رؤية حضارية تحفظ «الإيمان»، وتتجاوز إكراهات الماضي، وتمنع «اختطاف» الدين واستخدامه وسيلةً للوصول إلى «السلطة»، سواء السلطة السياسية أو الاجتماعية أو غيرها.
وفي «العروبة»، فأهل الجزيرة العربية هم «أصل العرب» كعرقٍ وكقوميةٍ، وهم ممثلوها الأمناء الخلص بعيداً عن استخدامها كشعاراتٍ سياسية أو فكرية للتوظيف وللمصالح التي كانت تتم في حواضر بعض الدول العربية، ويكفي استعراض بعض تنظيرات المثقفين العرب حول شعر العرب في الجاهلية والإسلام، وبين بعض شعراء الجزيرة العربية المعاصرين، لتكتشف بسهولة من هو الامتداد الطبيعي للعرب ومن يمثلهم فعلياً.
وفي «الوطنية» إعادة لرسم المشهد «التاريخي» بعيداً عما لحقه من تشويهات لأسبابٍ طبيعية أقوى من البشر، أو بسبب الجهل، أو الآيديولوجيا، وفتح إمكانية بناء مشهدٍ متكاملٍ لتاريخ الجزيرة العربية دولاً ومجتمعاتٍ وأفراداً، سياسة واقتصاداً وعلماً وثقافة، والدولة السعودية بأطوارها الثلاثة تمثل مجالاً رحباً وطريقاً لاحباً لمن يسعى لإعادة ترسيخ وتطوير الهوية في هذا الجانب.
لم يكن ولن يكون الجدل المتعلق بـ«الهوية» حديثاً مستهلكاً ولا «تنظيراً» فارغاً، بل على العكس هو ضرورة ملحة وحاجة لا يستغنى عنها تختصر الكثير من الجهد والعمل وتطوي الزمان باتجاه المستقبل وتذلل الصعاب وتواجه التحديات، ويكفي القارئ استحضار عشرات الكتب والجدالات التي تنشر في الشرق والغرب حول هذا الموضوع الحيوي والمهم، وعلى سبيل المثال لا الحصر يكفي معرفة أن كاتباً أميركياً معاصراً هو صموئيل هنتنغتون ألف كتاباً ضخماً عن أميركا تحت عنوان: «من نحن؟ المناظرة الكبرى حول أميركا».
الغرب المتقدم والمتحضر، خصوصاً رأس هرمه المعاصر (أميركا)، ما زال بحاجة إلى جدالات الهوية وتفريعاتها الكبرى والصغرى، ولم يصل بعد إلى مرحلة الاكتفاء أو «التقليل» من شأن من يكتب وينظر ويتفلسف في ذلك.
أخيراً، فهذا السياق يؤكد انفتاح العلوم بشتى تصنيفاتها على مزيدٍ من الجهد والإحكام والتأثير، في علوم «الإنسان» و«الاجتماع» و«التاريخ» و«الدين» و«الشريعة» و«الثقافة» و«السياسة» و«الاقتصاد» و«الفنون» بعناوين لا تنتهي ومباحث لا تنقطع يمكن أن تشتغل عليها «الجامعات» و«الأكاديميات» و«مراكز البحوث» و«المستقلون» لتحقيق غاياتٍ لا يحدها إلا «عنان السماء». وكل عامٍ وأنتم بخير.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

جدالات السياسة والهوية جدالات السياسة والهوية



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 11:50 2021 الثلاثاء ,26 تشرين الأول / أكتوبر

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 18:22 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر مع تنافر بين مركور وأورانوس

GMT 08:12 2017 الإثنين ,11 كانون الأول / ديسمبر

أويلرز يفوز على مونتريال في دوري هوكي الجليد

GMT 05:03 2017 الأربعاء ,27 أيلول / سبتمبر

شخص ملثم أضرم النار داخل مسجد فجر الاربعاء

GMT 17:08 2018 الإثنين ,08 تشرين الأول / أكتوبر

"المغرب اليوم" يكشف عن أجر "جون سينا" في" التجربة المكسيكية"

GMT 06:44 2018 الأربعاء ,26 أيلول / سبتمبر

"كالابريا" أحد كنوز إيطاليا الخفية عن أعين السائحين

GMT 01:14 2018 الإثنين ,03 أيلول / سبتمبر

مرتجي يؤكد استعداد الأهلي إلى "حدث تاريخي"

GMT 06:21 2018 الإثنين ,02 تموز / يوليو

أحلام تهتف باسم الملك وتُغني للراية الحمراء

GMT 20:38 2018 الأربعاء ,06 حزيران / يونيو

"شعبي نايت لايف" حفلة ضخمة للطرب في عيد الفطر
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca