«السترات الصفراء» تعرِّي أوروبا

الدار البيضاء اليوم  -

«السترات الصفراء» تعرِّي أوروبا

بقلم - راجح الخوري

عندما تمّ انتخابه رئيساً في يوليو (تموز) من العام الماضي، بدا إيمانويل ماكرون عريساً شاباً لا تحتاجه فرنسا وحدها، الخارجة من لا لون ولا طعم فرنسوا هولاند؛ بل تحتاجه أوروبا التي تبدو بدورها مسنة ومتعبة لأسباب كثيرة داخلية ودولية!

لكن ليس في وسع سنونوة ماكرون أن ترسم أفقاً واعداً لربيع القارة العجوز، فثمة أشياء كثيرة ومهمة تتغير داخل نسيج الاتحاد الأوروبي، الذي تكافح دوله كلها تقريباً عند حدود السعي المضني للمحافظة على نسبة عجز لا تتخطى 3 في المائة من الموازنة العامة التزاماً بقواعد الوحدة، وقد بات هذا بمثابة تحدٍ كبير سبق أن أغرق اليونان في الفوضى، ويقضّ الآن مضاجع الفرنسيين (نسبة العجز وصلت إلى 2.8 في المائة)، وكذلك مضاجع الإيطاليين والإسبان، ولا يبدو الوضع في بلجيكا أفضل، في وقت تعصف رياح «بريكست» ليس في بريطانيا وحدها؛ بل في دول الاتحاد كله تقريباً، باستثناء ألمانيا التي تستعد لمرحلة ما بعد المرأة الحازمة أنجيلا ميركل!

هذا في داخل البيت الأوروبي المشرع على جملة من المتاعب، أما تحديات الخارج، فتبدو ثقيلة ومقلقة أكثر، وتتخذ شكل فكّي كمّاشة قاطعة، فمن جهة الغرب حلّ في البيت الأبيض دونالد ترمب، الذي سيحول المناشدات السابقة التي أطلقها باراك أوباما لشركائه الأطلسيين، داعياً إلى رفع نسبة مساهمتهم في حلف الأطلسي إلى 2 في المائة، طبقاً للاتفاقات، ليصبح الأمر في مستوى الضغوط العلنية، التي وصلت أحياناً إلى حد الازدراء، عندما قال ترمب لماكرون علناً: «نحن دافعنا عن أوروبا وحميناها مرتين، وعليكم أن تدفعوا لنا، لن نقبل الاستمرار في تحمل كل نفقات الدفاع عنكم!».

أما من جهة الشرق، فقد خرج كل دهاء «كي جي بي» إلى الساحة الدولية، وهكذا عندما قرع فلاديمير بوتين أبواب القرم، وضمها في مارس (آذار) من عام 2014، كان يفتتح العودة الروسية إلى الساحة الدولية، التي ستجعل من أوروبا، وبينها فرنسا بالطبع، ساحة مستهدفة من الكرملين، على الأقل لأن الأوروبيين وسّعوا حلفهم الأطلسي مع الأميركيين شرقاً إلى تخوم روسيا، وصار يضم 29 دولة، بينها من كان في الأسرة السوفياتية.

ربما على خلفية هذا، يرتفع الحديث الآن عن نفخ إلكتروني روسي في رياح المظاهرات الفرنسية، وذلك عبر عشرات آلاف الحسابات المفبركة على وسائل التواصل الاجتماعي، التي قيل إنها نشرت صوراً لأحداث دموية زعمت أنها وقعت في باريس، بينما كانت من دول وأمكنة أخرى، وهو ما يذكّر بالحديث عن تدخلات الروس في استفتاء «بريكست» دعماً للانفصال، وبما قيل عن التدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية!

وإذا كان ضعف الدول الأوروبية يناسب الحسابات الروسية، فإن ذلك لا يتناقض طبعاً مع الحسابات الصينية، التي تعرف جيداً أن أي اعتلال في العلاقات الأميركية الأوروبية، يناسب طموحها لتحتل المرتبة العالمية الثانية، فكيف إذا كانت روسيا تعمل كظهير مساعد في هذا الاتجاه، ولو لحسابات أخرى؟
وسط كل هذه الشبكة من الحسابات المتداخلة، دخل ماكرون إلى الإيليزيه، ولم يلتفت كثيراً إلى أن هناك ثورة غضب تتحرك ضد السياسة الاقتصادية التي تتبعها حكومته، التي تقيم رهاناً خاطئاً على أن سياسة إعفاء أصحاب الرساميل ورجال الأعمال من الضرائب، ستمنع خروج الأغنياء من فرنسا، بما سيوفّر مزيداً من فرص العمل والوظائف؛ لكن هذا لا يمكن أن يوازي منسوب النقمة المتصاعدة على ماكرون «رئيس الأغنياء»، الذي تدنت شعبيته أخيراً إلى حدود 32 في المائة، وخصوصاً مع إحساس الطبقة الوسطى المتزايد بأنها تنزلق إلى مرتبة الفقر.

من المفارقات أن القانون في فرنسا يلزم كل صاحب سيارة بضرورة اقتناء سترتين صفراوين، لاستخدامهما في حال اضطر للخروج من سيارته المعطّلة، ليلفت انتباه السائقين الآخرين ويحصل على المساعدة، ولكن السترات المتظاهرة في وسط باريس توحي بأن سيارة ماكرون قد تعطّلت، ومع ظهور السترات المشابهة في بلجيكا ثم في إيطاليا ولو بنسبة رمزية، فإن ذلك يشكّل مؤشراً عملياً على وجود حال من التململ في معظم الدول الأوروبية، وذلك يعني بالمعنى الرمزي أن سيارة الأسرة الأوروبية قد تعطّلت أيضاً!

حركة السترات الصفراء انطلقت بعد قرار الحكومة رفع أسعار الوقود، وسرعان ما جذبت إليها فئات متعددة من الجماعات، من اليساريين المتحمسين الذين يقودهم جان لوك ميلانشون تحت راية حزب «فرنسا المتمردة»، إلى القوميين في أقصى اليمين الذين تقودهم مارين لوبان تحت راية حزب «التجمع اليميني»، وحتى إلى الشباب المتحمسين الذين انتخبوا ماكرون.

ولكن السؤال يبقى الآن بعد خطاب ماكرون الذي قال إنه يتحمل حصته من المسؤولية: هل يكفي الحديث عن إعلان «حال طوارئ اقتصادية واجتماعية»، وعن الزيادات الطفيفة في الأجور، مع الإبقاء على قراره السابق إلغاء الضريبة على الأكثر ثراء، بهدف المحافظة على بقاء الرساميل وفرص العمل؟
ليس من المتوقع أن تنتهي الأمور عند هذا الحد، أي زيادة الحدّ الأدنى للأجور 100 يورو شهرياً، وبعض الإعفاءات الضريبية الطفيفة، وخصوصاً عندما يقول ماكرون في خطابه، إن جذور الأزمة عمرها أربعون عاماً، وإن فرنسا تمرّ بمرحلة تاريخية، وإنه «عندما ينطلق العنف تتوقف الحرية»؛ لأن المطلوب عندما ينطلق العنف أن تتحرك المسؤولية.

لهذا أعود إلى ما كان وزير الداخلية الفرنسي كريستوف كاستانير قد قاله عشية خطاب ماكرون، من أن «المظاهرات وحش خرج عن السيطرة»، وخصوصاً عندما يتبيّن أن أكثرية الذين بدأوا التظاهر هم الذين انتخبوا ماكرون، على خلفية وعوده السياسية والاقتصادية، التي عندما يقول الآن إن الأزمة تعود أربعة عقود إلى الوراء، فإنه يوحي بعجزه عن إيجاد حلٍ سريع لها.

الأمور الاقتصادية المعيشية باتت تتصل في فرنسا وغيرها من الدول الديمقراطية بأمرين؛ أولاً بطبيعة الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت عام 2008، وما زالت شظاياها مستمرة في معظم الدول الغربية، وهو ما يؤثر على نسبة النمو، وتالياً على قدرة الحكومات حيال تلبية المطالب الشعبية وتنفيذ الوعود التي تقطعها، تماماً مثلما فعل ماكرون في الانتخابات، وثانياً بطبيعة القواعد التي باتت تشكّل الرأي العام، بعد تدني منسوب الصحة في الأخبار المتدفقة عبر وسائل التواصل الاجتماعي!

ما يثير الاستغراب فعلاً، تلك الدعوة التي أطلقها ماكرون عشية انفجار المظاهرات، عندما اقترح تشكيل جيش أوروبي موحّد في مواجهة روسيا والصين وحتى الولايات المتحدة، وهو ما أدى إلى اشتباك ساخن مع دونالد ترمب، فعلى أي أساس وبأي قدرات اقتصادية يمكن بناء هذا الجيش، وخصوصاً عندما نحتاج اليوم إلى الجيش الفرنسي لمواجهة المتظاهرين الذين بدأوا بإشعال النار في وسط باريس، وعندما تستعد بعض الدول الأوروبية لمواجهة مظاهرات السترات الصفراء؟

لكن يبقى لحلم ماكرون طعم آخر في معظم دول القارة العجوز، التي كان دونالد رامسفيلد يهزأ منها بتسميتها «العالم القديم»، وهو طعم الحاجة إلى البدء في مرحلة جديدة من حيوية التعاون بين القادة بروح شابة، تواجه اليمين الصاعد في الداخل، والذي يهدد بتعميم قاعدة «بريكست» في البيت الأوروبي، وتواجه التحديات المتصاعدة من الشرق والضغوط المتزايدة من الغرب. والعالم يتغيّر لأن الديمقراطية تسمح بارتداء السترة الصفراء التي تصنع الرؤساء وتخلعهم أيضاً

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«السترات الصفراء» تعرِّي أوروبا «السترات الصفراء» تعرِّي أوروبا



GMT 11:31 2019 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

كتب جديدة للقارئ في معرض الشارقة الدولي

GMT 11:26 2019 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

كتب أخرى للقارئ العربي

GMT 05:03 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

دسائس البلاط

GMT 05:01 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

اللبنانيون يأملون.. لكن بخوف وحذر!

GMT 05:00 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

ثورة في لبنان في عهد "حزب الله"

GMT 11:50 2021 الثلاثاء ,26 تشرين الأول / أكتوبر

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 18:22 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر مع تنافر بين مركور وأورانوس

GMT 08:12 2017 الإثنين ,11 كانون الأول / ديسمبر

أويلرز يفوز على مونتريال في دوري هوكي الجليد

GMT 05:03 2017 الأربعاء ,27 أيلول / سبتمبر

شخص ملثم أضرم النار داخل مسجد فجر الاربعاء

GMT 17:08 2018 الإثنين ,08 تشرين الأول / أكتوبر

"المغرب اليوم" يكشف عن أجر "جون سينا" في" التجربة المكسيكية"

GMT 06:44 2018 الأربعاء ,26 أيلول / سبتمبر

"كالابريا" أحد كنوز إيطاليا الخفية عن أعين السائحين

GMT 01:14 2018 الإثنين ,03 أيلول / سبتمبر

مرتجي يؤكد استعداد الأهلي إلى "حدث تاريخي"

GMT 06:21 2018 الإثنين ,02 تموز / يوليو

أحلام تهتف باسم الملك وتُغني للراية الحمراء

GMT 20:38 2018 الأربعاء ,06 حزيران / يونيو

"شعبي نايت لايف" حفلة ضخمة للطرب في عيد الفطر
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca