معنى أن نكتب رقميًا

الدار البيضاء اليوم  -

معنى أن نكتب رقميًا

بقلم - عبده حقي

بموازاة مع التقدم التكنولوجي وتصاعد دمقرطته صارت الرقمية تغزو حياتنا يوما بعد يوم وعديد من استخداماتها حاليا تجعلنا مرغمين على طرح أسئلة عديدة حول تحديد
مفهومها من جديد.
إن الكتابة باستعمالها اليوم لقواعد وأسانيد الرقمية ، قد عرفت تحولات بسبب هذا الإنتشار الهائل في وسائل التكنولوجيا الحديثة. فالأسانيد وأدوات الكتابة قد أثرت بشكل واضح في أسلوب كتاباتنا وكذلك من خلالها في طرق تفكيرنا وعيشنا ، لكن من دون شك أن الكتابة الرقمية قد أضفت الكثير من التغييرات العميقة والشاملة في عالم الكتابة بشكل عام كما كنا نتصورها منذ عقود إلى اليوم.
الكتابة الرقمية هي كتابة ذات شكل خاص يجد مجاله أساسا في الوسط الرقمي (معلوميات ، إنترنت ، ألواح إلكترونية ..إلخ) يتعلق الأمر إذن بإنتاج نصوص تأخذ بعين الإعتبار قبل تشكلها وبلورتها خصوصية السند والأدوات والأشكال المستعملة ، سواء إرتبط ذلك بالضرورات التقنية التي تفرضها أو الإمكانيات التي تمنحها من خلالها خصوصا ماتعلق بإنشاء روابط تشعبية وتوظيف بعض التقنيات مثل
تقنية (نسخ /لصق).
لكن الكتابة الرقمية ليست كل هذه الممارسة الكتابية فحسب ــ التي تم إنتاجها بواسطة التكنولوجية الرقمية ــ إنها أيضا بشكل ضمني مجموع عوامل القراءة المقتعدة على التكنولوجيات الرقمية . في جانب آخر فإن الأدب الرقمي الذي يتم إنتاجه بواسطة الكتابة الرقمية يتميز عن الأدب الأوتوماتيكي (التناظري) الذي يتطلب تحويل أعمال أدبية ورقية إلى أشكال أدبية رقمية متماثلة . يجب إذن التمييز بين الكتابة الرقمية والكتابة المعلوماتية أي الكتابة بأستعمال أكواد ورموز خاصة .
الكتابة الرقمية تأخذ أشكالا متعددة . إنها تروم تحقيق ماهو أساسي وفعال . فهي تطرح وضعا تشاركيا يضع النقط المعلوماتية البارزة ضمن أولوياته . طبعا ليس هذا كل شي فالكتابة الرقمية هي أيضا كتابة خلاسية تجمع بين ماهو صوتي وكتابي .. فالإنترنت يتميز بهذا التزايد في إمكانية التحاور السمعي بين رواده . إننا نتحدث هنا عن شكل أدبي (صوت/كتابي) .
الكتابة الرقمية أيضا هي كتابة ثلاثية الأبعاد 3D يلتئم فيها الصوت والنص والصورة . إن رواد الإنترنت أصبحوا مشاركين بشكل أسرع وجماعي في إنتاج نصوص وسرود قصيرة أكثر تطورا بحيث يصير النص إبداعا جماعيا ، ورموز مثل # و @ تصير بدورها رموزا عادية ومألوفة في النص الرقمي .
تبدو الكتابة الرقمية أكثر إبداعية من غيرها ، بمعنى أننا بصدد شكل جديد للإبداع الأدبي يتجلى في عدد من الأجناس المتفرعة عنه كالشعر الرقمي والنص التفاعلي ونص (التوليد/الذاتي auto-généré) وغيرها .
ـــ التطبيقات الجديدة والقراءة
إذا تعددت اليوم النظريات حول الكتابة الرقمية وإذا كانت أذواتها متوفرة الآن فالسؤال المطروح هو أي تطبيق قد نستعمله لإنجازها وبالتالي ماذا تعني الكتابة اليوم بشكل عام ؟
تتطلب الكتابة الرقمية تطبيقات مختلفة تأخذ أشكالا وثائقية وفنية ..إلخ ، فالكتابة الرقمية نشاط يتطلب كفاءات متفردة ومعقدة على مستوى التنظيم والتخطيط والتأليف . ومن دون شك أن الكتابة بواسطة آليات الرقمية قد عرفت تعقيدات جمة .. هناك اليوم عدد من التطبيقات الجديدة التي تحفل بها الكتابة الأدبية والتي لم تكن من قبل ..فالكاتب أصبح يتوفر على برنامج للتراسل يمكنه أن يدرج في عالم الكتابة عديدا من المواد والأماكن والأدوار المختلفة وكمثال على ذلك : مستخدم البريد الذي يرسل الرسالة وساعي البريد الذي يضعها في صندوق الرسائل .
إنه لمن الملاحظ أن هناك تمايزات بين مختلف أشكال الكتابة غير أنها تلتقي فيما بينها في جوانب أخرى عديدة .. إنها متآلفة وغير متباعدة بعضها عن بعض . فحدودها مفتوحة ، متكاملة وغير متعارضة .. قد نتحدث أيضا في هذا السياق عن الكتابة الإبرميدية (متعددة الميديا) عندما تلتقي فيها الروابط التشعبية وأذوات الميديا.
ولنضرب مثلا بالفيس بوك خلافا للتويتر. فالفيسبوك مفتوح للعموم ولا يحصر عدد الحروف والرموز. وفضاؤه الإفتراضي للتخزين غير محدود كذلك ، كما أن النصوص المنشورة على الصفحات مختلفة الطول ، مدعمة بالصور، بالفيديوهات وبالأصوات … إن الأمر يتعلق بفضاء إفتراضي للإبداع (المتعدد/ميديا) الذي يجسد أدبا رقميا فائقا .
يبدو أننا بدأنا ندرك تزايد إهتمام الكتاب بمواضيع التواصل الإجتماعي ، بل إن الأمر الأكثر مفاجأة بهذا الصدد هو أن الكتاب عامة كانوا إلى عهد قريب أشخاصا أقل إنذماجا وتواصلا في الوسط الإجتماعي ، والكاتب كان مثل الناسك المنعزل في برج إبداعه . لكنه اليوم بات شخصية عادية في عالم الويب. الكاتب الأمريكي بريت إيستون بليس BRET EASTON ELLIS واحد من بين هؤلاء الذين يستعملون خدمة مواقع التواصل الإجتماعي وخصوصا تويتر بقصد تشاطر رأيه مع زوار صفحته حول آخر الإصدارات في المكتبات .. إنه إستعمال جماعي أنجع وأفيد للشبكة . لكن ماهو أهم هنا هو أن (باتريك باتمان Patrick Bateman) الشخصية الرئيسية والمتكررة في جل روايات (بريت إيستون إليس ) تتبنى نفس السلوك الكتابي وذلك بنشرها هي أيضا لآرائها الخاصة على الشبكة العنكبوتية ..
الكاتبة والمؤلفة (أكاط إليفا Agathe Elieva) هي أيضا تنقش كل يوم كتاباتها الشعرية على صفحتها في الفيسبوك حيث تنشر مختلف الصور التوضيحية والمدعمة بالمقولات المستعارة من نصوص لأشهر الكتاب كما تستعمل أشهر آراء المصورين مثل (روبير دواسنو Robert Doisneau) ومصورين آخرين بهدف توضيح كتاباتها .
من دون شك أن عدد رواد الفيسبوك يتزايد يوما بعد يوم من أجل التعبير عن آرائهم وأفكارهم بل إن بعضهم قد عمد إلى نشر تدويناته الإفتراضية في كتاب ورقي خاص على غرار مافعلت (سيلفي غراسيا Sylvie Gracia) التي أصدرت كتابها الموسوم ب (كتاب الوجوه ) بعنوان فرعي هو (الجريدة الفيسبوكية 2010 ـ 2011) عن دار النشر (جاكلين شامبان ) حيث نجد على صفحات مجموعة منتقاة من صورها الشخصية المرفوقة بنصوص توضيحية طويلة تعبر عن يومياتها باعتبارها يوميات حميمية أو سيرة ـ ذاتية .
وحسب رأي توبياس هيل ( Tobias Hill) يقول : إننا لانكتب سوى ماهياتنا والتجربة الإنسانية هي تجربة إجتماعية قبل كل شيء.
لكن ما الذي يميز النصوص المنشورة على مواقع التواصل الإجتماعي والنصوص الأدبية الأخرى ؟ يمكننا القول أن النصوص المنشورة على تغريدات تويتر تشبه إلى حد ما نصوص الهايكو الياباني أو الأمثال الفرنسية Proverbes . التغريدات تأخذ أبعادا أخرى بسبب تعليقات القراء وردود الفعل والتفاعلات عند الرواد المتابعين follower . لم يعد شخص واحد هو الذي يتحدث بل مجموعة من الأشخاص . إن هذه الكتابة الجماعية التشاركية التي تعتبر خاصية ومظهرا من مظاهر الكتابة في عصر الويب ليست شكلا جديدا متفردا في تاريخ الأدب فقد سبق للكتاب السرياليين أن جربوا هذا النمط من الكتابة اللعبية التشاركية في قصة (الجثة الرائعة) حيث كان كل كاتب مشارك في العمل يضيف شذرة سرية غيرمعلومة للكتاب السابقين عنه أو اللاحقين بعده مما ينتج عنه في المحصلة تجميع نص مرتق شذريا وذي مسحة هذيان غامض أي (سوريالي)
هذه الكتابة التشاركية تتميز اليوم بتعدد الظواهرعلى غرار ظاهرة ال (فان فيكس Fanfics) أي جماعة المعجبين بالتخييل أي التخييل المكتوب إنطلاقا من عالم أو شخوص أعجب بها الكاتب/المعجب (بفتح الجيم) FANFICS  . الفرق هو أن المعجبين السابقين كانوا كتابا خاضعين لرحمة دور النشر الورقية ، أما اليوم فإن كتاب ظاهرة (فان فيكس) يتطورون بشكل فوضوي متحررين من إكراهات دور النشر وبشكل ديموقراطي . لكن يبقى دائما هناك تساؤل أساسي يطرح نفسه بإلحاح حول قيمة هذا الأدب الرقمي … لذلك يتبدى لنا هنا دور الكاتب في تنظيم وإدماج مشاركة كل كاتب (فان فيك) . لم تعد المهارة والموهبة هنا تتعلق بدربة الكتابة واختمارها بل أيضا بمعرفة إنتقاء أجود المشاركات.
رهانات الإرسال :
إن تعلم الكتابة يعد مرحلة أساسية من أجل تطوير الإستقلال الذاتي الثقافي autonomie ومواصلة مسار الدراسة، فالتلاميذ الذين يواجهون الكتابة الرقمية تكون لديهم تجربة سابقة في إحتكاكهم بمواقع التواصل الإجتماعي ، بالمدونات أو المنتديات ..إلخ) لكن مع الأسف كل هذه المواقع التواصلية تنتج مايشبه الكتابة وليست الكتابة الرصينة … يجب إذن تلقين التلاميذ طريقة إنتاج كتابة متنوعة وخالية من الشوائب والتعثرات .. يجب كذلك الأخذ بعين الإعتبار بالعديد من القدرات الهائلة والمشاكل العديدة التي يتم نسيانها أو إهمالها وبالتالي على المؤسسات التعليمية من جانبها أن تضع ضمن أولوياتها تدريس الثقافة الرقمية .. في هذا السياق علينا أن نكون يقظين وواعين بأن تلقين طرائق الكتابة الرقمية تختلف عن طرائق تلقين دروس المعلوميات أي تعلم (الأكواد والرموز) . لايتعلق الأمر هنا إطلاقا بتكوين التلاميذ في مجال مهن معلوميات المكتب Office… إننا عندما نلقن للتلميذ رقن نص على لوحة المفاتيح فإن ذلك لا يعني أننا نلقنه مبادئ الرقمية . إن هذه الأمور أساسية لكنها غير كافية . الثقافة الرقمية التي يتلقاها جيل الشباب اليوم والتي تسهم من دون شك في تربيتهم الثقافية العامة لا وجود لها في مقررات المؤسسات التعليمية .
هناك نموذج من تعليم الكتابة الرقمية بالرغم من كونه يتعلق بماستر الأدب والكتابة الرقمية في جامعة باريس الثامنة . فدروس البرمجة بها تلقن الطلبة إنشاء مواقع ويب أو كتب إلكترونية خاصة بقارئات التابليتات بينما يجب أن تركز ورشات الكتابة على إنتاج محتويات تتنوع بين الكتابة الصحفية والكتابة التخييلية .
في نهاية مقرراتهم الدراسية إن هؤلاء الشباب المتوجين بالديبلومات والشواهد الجامعية يتجهون نحو مهن الكتابة الرقمية مثل : (محرر موقع إلكتروني) أو (محررــ موجه) أو (كاتب سيناريو) للمحتويات النصية الخاصة بهواتف السمار تفون أو بمجموعات التدبير… وهناك وظائف أخرى مثل التحرير الخاص بالويب أو الصحافة أو التواصل الشبكي ، أو المهن المرتبطة بصناعة الكتاب ، النشر أو إنتاج المحتويات باعتبارها جميعا مسالك المستقبل في مجال الكتابة الرقمية .
إن العالم الثقافي قد شهد تحولات جذرية مدعومة بدمقرطة الأسانيد الرقمية التي تستهدف التلاميذ وتستهذف أيضا شروط النشر والتدبير وإنتاج المعرفة . مشكلة التكنولوجيات الحديثة تتعلق أساسا باستعمالها السائد الذي يروم توظيفها بطريقة نمطية وسطحية باعتبارها (علامة) SIGNAL بينما لاشيء يمنعنا من جعلها فرصة حقيقية للتطور المادي على غرار الكتابة الكلاسيكية.
في جانب آخر عديد من الأبحاث خلصت إلى أن جل المتعلمين يملكون كفاءات جيدة على مستوى إستعمال هذه التكنولوجيات الجديدة لكن مايعوزهم هو فقرهم الثقافي … إن نشر وتعميم الثقافة الرقمية سيمكنهم من تطوبر تفكيرهم على مستوى تطبيقات أكثر تبلورا .
تدريس تعلمات وتطبيقات الكتابة الرقمية وطرق تفعيل الوسائل الرقمية يمكن من تحرير وإغناء ممارسة الكتابة الرقمية (نص مترابط ـ ميلتي ميديا ــ كتابة تشاركية ..إلخ) فضلا عن تطوير الحس النقدي وترسيخ عنصر التفكير في طريقة الكتابة والإعتماد على قراءة مختلفة لصناعات القراءة .
 

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

معنى أن نكتب رقميًا معنى أن نكتب رقميًا



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 11:50 2021 الثلاثاء ,26 تشرين الأول / أكتوبر

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 18:22 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر مع تنافر بين مركور وأورانوس

GMT 08:12 2017 الإثنين ,11 كانون الأول / ديسمبر

أويلرز يفوز على مونتريال في دوري هوكي الجليد

GMT 05:03 2017 الأربعاء ,27 أيلول / سبتمبر

شخص ملثم أضرم النار داخل مسجد فجر الاربعاء

GMT 17:08 2018 الإثنين ,08 تشرين الأول / أكتوبر

"المغرب اليوم" يكشف عن أجر "جون سينا" في" التجربة المكسيكية"

GMT 06:44 2018 الأربعاء ,26 أيلول / سبتمبر

"كالابريا" أحد كنوز إيطاليا الخفية عن أعين السائحين

GMT 01:14 2018 الإثنين ,03 أيلول / سبتمبر

مرتجي يؤكد استعداد الأهلي إلى "حدث تاريخي"

GMT 06:21 2018 الإثنين ,02 تموز / يوليو

أحلام تهتف باسم الملك وتُغني للراية الحمراء

GMT 20:38 2018 الأربعاء ,06 حزيران / يونيو

"شعبي نايت لايف" حفلة ضخمة للطرب في عيد الفطر
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca