مدرستي الحلوة

الدار البيضاء اليوم  -

مدرستي الحلوة

رشيد نيني

نحن نسمع ونرى المعركة السياسية، التي نشبت بين رئيس الحكومة ووزيره في التربية والتعليم، لا يسعنا سوى أن نقدم واجب العزاء لروح المدرسة العمومية، تلك التي كنا نغني لها لكي «تحيا مدرستي أمي الحنونة».
ولا يسعنا سوى أن نتأسف لحال هذا الجيل الذي ذهب ضحية القتل المبرمج للمدرسة العمومية، وأن نخشى على أنفسنا وعلى المستقبل من مصير الجيل الذي سيأتي بعد هذا، والذي سيجد أن المدرسة العمومية أصبحت حفرية من الحفريات الجديرة بالمتاحف.
لحسن حظنا نحن أننا لم نكن نعول على المدرسة في كل شيء، إذ لم يعلمونا كل شيء بل إننا تعلمنا من تلقاء أنفسنا تقريبا كل شيء.
تعلمنا الإيمان من قصص الأنبياء، وأحببنا العراق وبلاد الرافدين بسبب قصص «المزمار» و«مجلتي»، حلمنا بالسعودية والإمارات والكويت بسبب قصص «ماجد» ومجلة «العربي».
عندما داهمتنا المراهقة بحب شبابها ونزقها وبروز زغب الذقن وشمنا لرائحة آباطنا، تعلمنا الحب من قصص «هارلوكان» ومجلة «الموعد» وقصص سلسلة «عبير».
هذه كل مراجعنا العلمية والأدبية، فقد تعلمنا الحب العذري من روايات جرجي زيدان والمنفلوطي، وتعلمنا التفلسف والشك من نبي جبران خليل جبران، وأخذنا دروسنا الأولى في الشر من قصص «علي بابا والأربعون حرامي»، فيما تعلمنا قيمة الصبر من ياسمينة، وحلاوة المغامرة من السندباد البحري.
ومع كل هذا الانهيار الذي تعرفه المنظومة التعليمية في المغرب، هناك كثيرون سيطالعون تقرير البنك الدولي حول الوضعية المخجلة التي أصبح يحتلها المغرب بسبب نظامه التعليمي، وسيشدهم الحنين إلى مدارسهم القديمة وهم يرون أبناءهم يحملون حقائبهم الثقيلة فوق ظهورهم مثلما يحمل سيزيف صخرته، ويتجهون إلى مدارسهم. فيتذكرون فرحة العودة إلى القسم، وحماسهم الطفولي للتعرف على المعلم الجديد الذي ترسله لهم الوزارة لكي يعلمهم الحساب والإنشاء والمحفوظات والدين.
كثيرون يتذكرون أن الدراسة في تلك السنوات البعيدة لم تكن تحتاج إلى كتب ومقررات ودفاتر كثيرة، بل فقط إلى كناش من فئة خمسين ورقة وتلاوة «اقرأ» وريشة ومنشفة.
أما المداد فكان المعلم هو الذي يتكفل بتوزيعه على محابرنا التي توجد في مقدمة طاولاتنا الخشبية.
كثيرون سيتذكرون تلاوة «بوكماخ» و«عنزة السيد سوغان» و«باليماكو» وهو يتسلق النخلة. كثيرون سيتذكرون نصوصا موشومة في الذاكرة كـ«الثرثار ومحب الاختصار» و«البدوية والمصباح» و«زوزو يصطاد السمك» و«الشمعة والفانوس» و«سلمى في المخيم».
في تلك السنوات البعيدة كانت للمعلمين وسيلة إيضاح أساسية يستعينون بها على شرح دروسهم، وهي العصا. كانوا يضعونها فوق المكتب، وكان معلمنا من شدة حبه لها يسميها «مسعودة»، ويقول ساخرا لكل من يتعثر في شكل قطعة في السبورة أو ينسيه الشيطان آية قرآنية، وهو يلوح بالعصا، «مسعودة تحيد البرودة».
وفعلا فقد كانت «مسعودة» تزيل البرودة عن أرجلنا الصغيرة المتجمدة من البرد، فتصبح حمراء وساخنة، حتى أنه من فرط الضرب كان بيننا من يعجز عن إدخال قدميه في حذائه بسبب انتفاخهما، فيحمل حذاءه في يده ويغادر إلى بيته متكئا على أكتاف زملائه، كمعطوب عائد من حرب.
وكم تغيرت الأزمنة اليوم كثيرا، فيكفي اليوم أن يعود الطفل منكسر الخاطر من المدرسة حتى تثور ثائرة والديه ويقصدان المدرسة لكي يصبا غضبهما على المعلم والمدير. أما في زمن مضى فقد كان الطفل يعود إلى البيت من المدرسة وهو لا يستطيع حتى المشي على قدميه من شدة الفلقة، وعندما يقترب من باب البيت يستقيم في مشيته وكأن لا شيء حدث، لأنه يعرف أن والديه إذا تناهى إلى علمهما أنه تعرض للسلخ في القسم، فإنهما سيكرمانه بسلخة إضافية، جزاء له على تكاسله.
ولعل إلغاء العقوبات الجسدية الخفيفة في حق التلاميذ فتح، حتى في فرنسا، الباب على مصراعيه أمام نوع جديد من «شيطنة» الأطفال. وفي إحصائية حديثة نشرها المرصد الوطني للجنوح والاعتداءات الجسدية واللفظية في باريس، نقرأ أن ستين معلما ومعلمة يتعرضون يوميا للضرب من قبل التلاميذ، وهذا ما جعل وزارات تعليم دول أوربية، وعلى رأسها وزارة تعليم بريطانيا، تفكر في السماح للمعلمين بمعاقبة تلاميذهم جسديا، في حدود المعقول.
الواقع أن الزمن الذهبي للتعليم في المغرب انتهى منذ سنوات. كنا نردد النشيد الوطني أمام الراية في الساحة كل صباح قبل أن ندخل أقسامنا الباردة، وفي المساء نردد نشيد «مدرستي الحلوة» قبل أن نغادر القسم ونتراكل في الساحة قليلا مثل بغال صغيرة أطلق سراحها بعد يوم عمل شاق، ثم نذهب إلى بيوتنا لمتابعة «سكوبيدو بيدو».
حتى الأقسام كانت لديها مسحة خاصة، غير تلك المسحة الكئيبة التي توجد عليها أقسام اليوم، والآن تحضرني كل التفاصيل التي كانت تزين القسم، صورة الجزار الذي يعلق أمام دكانه خرفانا مذبوحة ويتبسم بشارب أسود كث. صورة الصياد الذي يصوب بندقية صيده نحو سرب من البط بينما كلبه يستعد للجري وراء البطة التي ستصيبها الطلقة وتسقط في البحيرة الجامدة في الصورة إلى الأبد. صورة النجار وهو يقطع الألواح الخشبية. صورة الملك وهو يضع أمامه الأسماك التي اصطادها من بحيرة القصر. الكؤوس التي نضع داخلها حبات الحمص والعدس والفاصولياء ونتركها في شرفة القسم لكي ندرسها في مادة الأشياء. الرسائل الكثيرة التي كان يبعث بها المعلم معنا إلى المعلمة التي كانت في الدور العلوي، والتي عرفنا في ما بعد أنها كانت رسائل غرام وأننا كنا سعاة بريد اشتغلنا في قصة حب طيلة السنة بالمجان.
عندما كان يقترب فصل الشتاء يأتي ممرضون من المستشفى وينشبون في أذرعنا تلك الحقن التي تتبرع بها علينا منظمة الصحة العالمية حتى لا ننقرض، والتي ما زال جيل بأسره يحمل آثارها إلى الآن، حتى أصبحت هذه الجلبة بطاقة هويتنا الحقيقية التي تفضحنا عندما يلقى على أحد مهاجرينا السريين القبض في بلدان الجيران.
وعندما كانت تشارف السنة على الانتهاء يأتي ممرضون آخرون يفرغون أنابيب «البوماضا» في عيوننا التي يوشك العمش على إغلاقها، فنخرج إلى الساحة ونقول للفوج الذي سيدخل بعدنا شامتين، «دخلو تبزق عليكم الدجاجة».
ومن الأشياء التي لم يعد لها وجود الآن في نظامنا التعليمي، ذلك التوقيت الذي كان يجبرنا على الدخول إلى القسم في الساعة السابعة صباحا والخروج في الساعة العاشرة. وطبعا كان أغلبنا يأتي من دون إفطار، والمحظوظون يكون عندهم ريالان لكي يشتروا بها «شفنجة» ساخنة في الطريق إلى القسم.
وأذكر أنني مع كثيرين كنت ضمن هذا الفوج الذي يدخل باكرا، ولكي أستيقظ في الموعد كنت أضع مذياعا تحت وسادتي وأتركه مشغلا طيلة الليل. وعندما يبدأ المرحوم المكي الناصري تفسيره للثمن الثاني من الربع الأول في الحزب السادس عشر من القرآن الكريم، أعرف أن الفجر سيعلن عن نفسه بعد قليل. فأسبح مع المكي الناصري في تفسيره العجيب للقرآن وأتخيل قوم نوح الذين عذبهم الله وأتصور الجنة وما فيها من فواكه ووديان، والنار وما فيها من أفاعي وأشجار كأنها رؤوس الشياطين، ولا أعود إلى الأرض إلا عندما تبدأ نشرة الأخبار، التي حفظتها لكثرة ما سمعتها كل صباح.
آنذاك فقط يكون علي أن أغادر البيت باتجاه المدرسة بعدما ألبس السلهام الذي اشتراه لي جدي وحذاء «الجيمس» الذي كلفني شهرا من استعطاف أمي، والسروال الذي وصلني بعدما انتظرت دوري طويلا حتى يصبح صغيرا على من هو أكبر مني.
ومع كل ذلك كان التلاميذ يصلون إلى القسم، جائعين ومبللين، بمجرد ما ينقطع أحدهم عن السعال حتى يبدأ الآخر. مئات الآلاف درسوا هكذا، بأدوات قليلة جدا وبثياب رثة وتغذية شبه سيئة واستطاعوا الصمود بفضل حقن ورغيف المنظمات الإنسانية. وفي الأخير ثبت أن هذه الأجيال استطاعت أن تنجب أطرا وأدمغة تنتشر الآن في جميع جهات الكرة الأرضية.
بينما الآن أصبح التلاميذ مع كل هذه الكتب والمقررات المليئة بالأغلاط التي يحملونها فوق ظهورهم لا يعرفون ماذا يحفظون وماذا يتركون. ولذلك نزل مستوى التعليم إلى الحضيض وطلع مستوى مداخيل ناشري الكتب المدرسية وأرباح أصحاب مدارس التعليم الخصوصي إلى السماء، فمصائب قوم عند قوم فوائد.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مدرستي الحلوة مدرستي الحلوة



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca