اليد الخفية

الدار البيضاء اليوم  -

اليد الخفية

رشيد نيني

تضاربت الآراء حول سبب الانسحاب المفاجئ لرئيس الحكومة من جلسة البرلمان، وهو الانسحاب الذي سماه رئيس الجلسة بالطارئ.
فمن قائل إن رئيس الحكومة أصيب بمغص بسبب أحد تلك «السندويتشات» التي طلبها لوزرائه عندما كانوا مجتمعين حول قانون المالية، ومن قائل إن تأثير مرض السكري أصبح يظهر على رئيس الحكومة بحيث يضطر للتردد كثيرا على دورة المياه، وهذا طبيعي جدا، فرئيس الحكومة، أطال الله عمره وبارك له في صحته، وصل السن التي تتكالب فيها أمراض الشيخوخة على الإنسان، فيختل عمل البروستات، ويبدأ السكر في الصعود في الدم، ويرتفع الضغط ومعه تطل تباشير الروماتيزم والحساسيات على أشكالها.
لكن يبدو أن النقطة التي أفاضت كأس رئيس الحكومة وجعلته يهرول نحو المرحاض، هي جلوس رشيد بلمختار، وزير التربية الوطنية والتكوين المهني، بابتسامته الشامتة بين الحضور، بعدما طبز لها العين مع بنكيران بمشروعه حول فرنسة المواد العلمية.
لم ينتقد أحد وزير التربية والتعليم رشيد بلمختار بالقدر الذي فعلته في هذا العمود، لكن ما قام به رئيس الحكومة في البرلمان عندما «جبد» لوزيره في التعليم أذنيه أمام الجميع بسبب العودة لفرنسة المواد العلمية، يعتبر في نظري دليل جبن وعجز يعاني منه رئيس الحكومة.
ورغم أن رئيس الحكومة اعتقد أنه أظهر من خلال حصة التقريع تلك صلابته وصرامته في التعاطي مع وزرائه غير المنضبطين، إلا أن الحقيقة هي أن السيد رئيس الحكومة أظهر قدرة خارقة في القفز على الحيطان القصيرة، وإلا لماذا بلع لسانه عندما تعلق الأمر بصندوق العالم القروي الذي وافق على منح صفة الآمر بصرف أمواله لوزير الفلاحة، وعاد لكي ينقلب عليه ويلعب دور الوزير الذي «تقولب»، قبل أن يسحب شكواه ويبدأ في تأليف قصائد الغزل في وزير الفلاحة ووزير المالية.
والملاحظ أن رئيس الحكومة اكتفى باستعراض عضلاته على وزير التربية الوطنية ولم يتطرق لزميله في الحزب، لحسن الداودي، وزير التعليم العالي، علما أن الأخير أثار مؤخرا زوابع كثيرة من الانتقادات، عندما هاجم طلبة الشعب الأدبية، وأضحك المتتبعين عندما تحدث عن «ألواح» إلكترونية لمساعدة الطلبة، وهي الألواح التي أصبحت موضوع تنكيت في أوساط المهتمين بالشأن الجامعي والبحث العلمي.
وإذا كان بلمختار من دعاة التعليم بالفرنسية، فإن لحسن الداودي من أكبر دعاة التعليم بالإنجليزية، فلماذا لم يقرعه رئيس الحكومة ويدعوه للدفاع عن التعليم بالعربية عوض الإنجليزية؟
تقريع رئيس الحكومة لوزيره في التعليم يجب أن يكون في المجلس الحكومي وليس في البرلمان، لأن ما قام به رئيس الحكومة من تقريع هو دور المعارضة، أما هو فمطلوب منه أن يساند وزيره لا أن يهاجمه، وإذا كان غير متفق مع قرار يتقدم به أحد وزرائه فما عليه سوى أن يحسم في ذلك داخل المجلس الحكومي طبقا للصلاحيات الممنوحة لرئيس الحكومة.
ويبدو أن رئيس الحكومة لم يكن يتحدث مع رشيد بلمختار، وإنما كان يوجه كلامه للواقفين وراء مشروعه لفرنسة المواد العلمية، وهو لوبي نافذ لديه مصالح متشعبة وارتباطات متجذرة مع النخب المثقفة وأصحاب النفوذ المالي.
لذلك وجدها رئيس الحكومة فرصة لكي يذكر من بحاجة إلى تذكير أنه المسؤول الأول عن القوانين التي تعتمدها الحكومة، وأنه لا يريد أن يذكره التاريخ كرئيس الحكومة الذي أزال اللغة العربية من التدريس وعوضها بالفرنسية.
ولقد كان كافيا أن يرفض رئيس الحكومة مشروع وزيره في التعليم، حتى دون حاجة إلى سلخ جلده أمام نواب الأمة، لكن رئيس الحكومة فعل ذلك عن قصد حتى يظهر أولا بمظهر الضحية الذي تتم محاربته من داخل أغلبيته الحكومية، وحتى يظهر ثانيا بمظهر المدافع الشرس عن اللغة العربية بوصفها لغة القرآن.
والظاهر أن هناك جهة ما، غير ظاهرة، تشبه اليد المنقذة التي تمتد لحزب العدالة والتنمية في كل مرة يجتاز فيها مرحلة صعبة من تاريخه.
ففي الدقيقة تسعين دائما هناك من يضع كرة أمام العدالة والتنمية لكي يسجل الهدف.
وقد كانت أولى تلك الكرات هي عندما تعالت أصوات العلمانيين داخل لجنة تعديل الدستور من أجل إزالة طابع الإسلام عن الدولة، فوجدها بنكيران وصحبه فرصة مواتية للظهور أمام الملكية والشعب كمدافعين عن دين الدولة ضد شرذمة من اللائكيين وقدماء اليسار الشيوعي والانقلابي الذين يريدون علمنة الدولة وفصلها عن هويتها الإسلامية.
وهكذا ظهر الحزب وحيدا في دفاعه عن الإسلام، وربح بذلك أوراقا انتخابية كثيرة حملته على ظهر موجة الربيع إلى سدة الحكم.
ثم غاص الحزب لثلاث سنوات في التدبير الحكومي، واعترف رئيس الحكومة بنفسه بأنه عاجز عن الوفاء بالوعود التي قدمها للمغاربة، فبدأت شعبيته في الهبوط التدريجي، فضرب الله إدريس لشكر وطرح قضية المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، فثار الحزب الحاكم من جديد وخرج إلى ساحة النزال مبارزا بالأقلام والألسنة، فعاد لشكر إلى الوراء، إلى اليوم الذي قدم فيه الخمار اليازمي توصية باسم المجلس الوطني لحقوق الإنسان حول المساواة بين الجنسين في الإرث، فقام الحزب الحاكم من جديد ينافح عن الإسلام بوصفه الوصي السياسي عنه في البلد.
وكذلك كان الشأن في قضية الإجهاض، عندما كان الحزب الحاكم يتخبط بين الملفات الاجتماعية الحارقة، فجاءته هذه المعركة كهدية من السماء، فخاضها وربح بها نقطا، إلا أن فطنة الملك إلى ضرورة الحسم في موضوع حساس قد يكون وقودا لفتنة لا تبقي ولا تذر، جعلته يأمر بتشكيل لجنة ورفع خلاصات اقتراحاتها إليه، وكذلك كان.
إذن هناك دائما تلك اليد الخفية التي تمتد في آخر لحظة لانتشال العدالة والتنمية قبل السقوط من أجل أن يكمل رئيسه الشوط تلو الشوط، في مقابلة لا أحد يريد فيها رؤية بنكيران طريحا بالضربة القاضية، بل مهزوما بالنقط هزيمة نكراء.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

اليد الخفية اليد الخفية



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca