لغة تدريس العلوم والشعب المغبون

الدار البيضاء اليوم  -

لغة تدريس العلوم والشعب المغبون

بقلم - نور الدين مفتاح

حتى ولو كانت العودة لتدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية حلا ومكسبا، فإن حجج المدافعين عنها ضعيفة وفي بعض الأحيان بئيسة.

وأود منذ البداية أن أقول إنني مع إعلاء كلمة اللغة العربية في بلد أغلبيته الساحقة من أبناء الشعب لا يتواصلون إلا بها مع صنوتها العامية، ومع الانفتاح الضروري والمؤكد على اللغات الأجنبية، وأكثر من هذا، مع إعطاء مكانة متميزة في هذا الانفتاح للغة الفرنسية بفعل التراكم والاحتكاك التاريخي، والولوج التدريجي للغة الإنجليزية في أفق إعطائها المكانة اللائقة بها كأول لغة عالمية في مختلف مجالات الإنتاج البشري. ولهذا أنا لست مع التطرف في جهة مدافعة عن العربية تعتبر المس بها مؤامرة استعمارية، وتحارب اللغة الفرنسية كعدو محدق بالهوية.

وبعد هذا التوضيح، أعود إلى حجج أصحابنا في هذا النقاش المصيري ببلادنا، والذي يتخذ أبعادا مأساوية تنذر بتكرار الماضي السيء، مع أن الذي يؤدي الثمن في النهاية هو الشعب المغلوب على أمره والمجبر على أن يكون دائما حقل تحارب.

الحجة الجديدة عند أصحابنا هي أن أغلبية أساتذة المواد العلمية في المدرسة العمومية يتقنون الفرنسية أكثر من العربية، وهذا زيف، والمصيبة التي ستضرب القسم العلمي في مدرستنا حين تطبيق التدريس بالفرنسية هي بالضبط أن أغلبية الأساتذة لا يمكنهم التحول، هكذا، من التدريس باللغة العربية لمدة ثلاثين سنة إلى التدريس باللغة الفرنسية في رمشة عين.

ولنقف على تهافت ما هو مقترح اليوم، يكفي أن نرجع إلى قرار التعريب في سنة 1977، فهو لم يطبق دفعة واحدة على جميع الأقسام والمستويات، بل بدأ تدريجيا من القسم الابتدائي الأول وصعد قسما قسما إلى أن وصل إلى البكالوريا في حدود سنة 1990، فكيف سنهدم ما بني في 13 سنة حينها لندعي تشييده فوراً، مع العلم أن المستوى العام للغة الفرنسية ظلت مؤشراته تنازلية منذ عقود، وهذا من باب الواضحات.

أما من يدعون اليوم من الفرنكفونيين بأن تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية هو فرصة اجتماعية، فإننا نأسف لهذا النفاق الاجتماعي الذي لا يخجلون من عرضه في الساحة العامة. فعن أي فرصة اجتماعية نتحدث، في الوقت الذي يوزن التعليم بجودة مضامينه وكفاءة موارده البشرية وكرامة رجل التعليم والتلميذ وليس بلغة التدريس، التي تبقى عنصرا مهما ولكن ليس حاسما؟ وماذا عن مطالبتكم في نفس الوقت بالتدريس الرسمي باللغة العامية، فهل هو كذلك فرصة اجتماعية؟

أما الحجة المضحكة المبكية الجديدة، فهي أن الإقدام على تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية هو خطوة معتبرة لجسر الهوة بين أبناء الشعب، الذين لا مناص لهم من المدرسة العمومية بكل أعطابها، وأبناء النخبة الذين يدرسون في التعليم الخاص باللغة الفرنسية. إن هذا مجرد ادعاء، لأن التساوي بين هذا وذاك هو كالتساوي بين كوكبين متباعدين، فالتعليم العمومي في حالة شبه إفلاس، وتعليم المحظوظين جزيرة معزولة داخل المغرب، ولا مجال للمقارنة لا بين البرامج ولا بين المناهج ولا بين اللغات، بل الخطير هو أننا ننتج مغاربة مختلفين في كل شيء ولا تجمعهم إلا البطاقة الوطنية وشهادة السكنى. ولنا أن نأخذ طفلا من حي راق بالدار البيضاء مع طفل من معزل شعبي لنقف على الكذبة البلقاء لجسر الهوة بين العام والخاص في التعليم بفرنسة المواد العلمية.

نريد لأبنائنا أن يتمكنوا من اللغات الأجنبية، فليدرسوها بكثافة وبإتقان، ولتكن للفرنسية الأولوية، ولنوفر لها الوسائل والإمكانيات حتى يتعلمها  التلميذ ويتقنها، وحينئذ لن يكون لدينا مشكل تدريس بها، وما عدا هذا لن يكون إلا ترقيعا، والمشكل أنه لن يفيد ليس التلاميذ أو البلد فقط، بل لن يفيد حتى الفرنسية ذاتها، وأجيال ما قبل التعريب شاهدة على ذلك، لأن سبب التعريب أصلا كان هو الضعف الشديد للمتعلمين في المواد العلمية التي كانت تدرس حينها بالفرنسية.

المغرب دولة منظمة، لها دستور ومؤسسات، ولها شرعية حكم ومشروعية تدبير، ولكن في بعض أركان هذا المغرب، نجد أن الواقع يعلو على كل ما سلف. إن واقع جزء كبير من الإدارة والنخب والمجال الاقتصادي والتعاملات المالية والسلوك الاجتماعي للطبقة العليا، أو تلك الطامحة للتسلل الطبقي، يفرض أن يكون الدستور المغربي ينص على أن اللغتين الرسميتين للمغرب هما العربية والفرنسية، ولو كان الأمر بهذا الوضوح لكان أيسر في صباغة هذه اللوحة التشكيلية بشكل واقعي أو انطباعي، ولكن بما أن الدستور ينص على أن اللغة العربية والأمازيغية هما اللغتان الرسميتان للمملكة، والواقع هو غير ذلك، فإن العسر سيظل عسرا ولوحتنا لن تكون إلا تجريدية أو سوريالية.

إن النتيجة التي تبدو للعبد الضعيف لله مع هذا التخبط في مباشرة واحد من ملفات المغاربة الأكثر حساسية ورهنا للمستقبل هي أننا بصدد إعادة المأساة، وسنكون إزاء جيل جديد هو السواد الأعظم من المغاربة لا يحسنون لا الفرنسية كما يجب ولا العربية كما يجب ولا الأمازيغية ولا المواد العلمية، وبالمقابل سيكون هناك جيل مقابل من النخبة لا يعرفون إلا الفرنسية ولا يجهلون إلا العربية، فبأي شيء سنذكر بعد 10 أو 20 سنة الأغلبية أو الحكومة أو الحزب أو الوزيرا الذي سيتسبب في هذه الكارثة؟ قطعا بكل شيء إلا بالخير.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لغة تدريس العلوم والشعب المغبون لغة تدريس العلوم والشعب المغبون



GMT 11:31 2019 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

كتب جديدة للقارئ في معرض الشارقة الدولي

GMT 11:26 2019 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

كتب أخرى للقارئ العربي

GMT 05:03 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

دسائس البلاط

GMT 05:01 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

اللبنانيون يأملون.. لكن بخوف وحذر!

GMT 05:00 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

ثورة في لبنان في عهد "حزب الله"

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة

GMT 13:52 2016 الأحد ,20 آذار/ مارس

كريم طبيعي مزيل لرائحة العرق

GMT 08:47 2016 الإثنين ,11 كانون الثاني / يناير

البامية للوقاية من الأمراض المستعصية والاكتئاب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca