نهاية أسبوع في إسطنبول

الدار البيضاء اليوم  -

نهاية أسبوع في إسطنبول

بقلم - نور الدين مفتاح

ما إن تخبر قريبا بأنك مسافر إلى إسطنبول وأنت الحامل لصفة الصحافي حتى يحذرك تلقائيا من الاقتراب من القنصلية السعودية هناك، ويختم التحذير بضحكة البصم على أن الأمر مزحة، ولكنها مزحة القرن التي تخفي وراءها واحدة من الجرائم التي سيخلدها التاريخ كأبشع وأبلد جريمة في آن.

الطقس بارد جدا في العاصمة السياحية لبلد أردوغان، ولكن كل شيء حار في برنامج منتدى فلسطين الدولي للإعلام والاتصال "تواصل" 3.  سبعون عاما مرّت والقضية الفلسطينية ما تزال تراوح مكانها إن لم تكن تضعف بسبب التآكل والنسيان. سبعون عاما من الاحتلال والتشريد والقتل والتهجير، وأجيال ترى النور تحت الحصار. وفي أروقة المنتدى تصادف هذه الأجيال الفلسطينية من الضفة والقطاع وهي تحاول أن تشبب الأمل في أنه بالإمكان إنجاز أحسن مما كان إذا التف العالم ليس حول قضية خاصة بشعب أو بأمة ولكنها قضية إنسانية، أو كما قالت صحافية برازيلية إنها قضية عدالة وليست قضية سلام.

في الجلسة العامة الثانية، التي ناقشت "تطوير الخطاب الإعلامي حول فلسطين"، كان المتدخل المفترض الثاني كما هو مطبوع في البرنامج هو جمال خاشقجي، إلا أنه في نفس المدينة التي كان سيتحدث فيها عن فلسطين نهاية الأسبوع الماضي تم استدراجه للقنصلية السعودية وقتله وتقطيع جثته قبل إذابتها، ومازال العالم مذهولا من بشاعة ما جرى وكيف جرى. خيم الصمت في القاعة عندما ذكر المرحوم، ولنا أن نتخيل وقع كلمات مديرة الندوة وهي تقول إننا نعتذر للحضور الكريم عن عدم تمكن السيد جمال خاشقجي من أن يكون معنا لأنه قد قتل في قنصلية بلاده!

ولا أبالغ إذا قلت إن جزءا كبيرا من حواشي هذا المنتدى الفلسطيني للإعلام كان يدور حول خاشقجي، فكثيرون هنا كانوا من أصدقائه، وحتى من لم يكن فإن التواجد بإسطنبول حول موضوع الإعلام لا يجعل الواحد يفر من صدى هذه الفضيحة، التي لا يزال الإعلام التركي يتناولها بشكل يومي، وعين الجميع بطبيعة الحال على مآل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.

سآسف لشيء واحد بعد مغادرة إسطنبول، وهو عدم التمكن من زيارة مقر القنصلية السعودية، بالنظر لضغظ برنامج المؤتمر وبعدها عن مقره. وإذا كانت هذه المدينة الساحرة التي تنتشر على القارتين الأوربية والآسيوية، ويقطنها أكثر من 20 مليون نسمة، تضم معالم سياحية تجلب ما يفوق الأربعين مليون سائح سنويا، كساحة تقسيم والسلطان أحمد والمسجد الأزرق وقصر توبكابي والبوسفور والبازار الكبير، فإن "معلمة" جديدة انضافت إلى هذه اللائحة برعاية من المملكة العربية السعودية، وهي مقر القنصلية، حيث بدأ المتابعون والمهتمون من زوار المدينة يذهبون إليها لالتقاط الصور في مكان يؤرخ لعجيبة من عجائب الزمان، إذ ينفذ نظام جريمة قتل مع تشويه الجثة في مقره الديبلوماسي بدولة أخرى.

إن تسويق صورة فلسطين الذي هو جزء من همّ هذا المنتدى عبر العالم لابد أنه يتأثر بصورة الإنسان العربي والمسلم، وهذه بلاد الحرمين الشريفين، وقلب العالم الإسلامي، تنجح في تشويه صورتنا كفصيلة لا تحل مشاكلها إلا بالذبح والسلخ وتقطيع الجثث! بل إن جل الأنظمة العربية اليوم أصبحت أقرب إلى إسرائيل منها إلى فلسطين، والغريب أن أقلام السلطة في السعودية تجاوزت كل الحدود في هذا الإطار، وبدأت تكتب أشياء لا يمكن تصديقها لشدة خطورتها، من مثل عبد الحميد الحكيم الذي كتب إبان الغارات الإسرائيلية الأخيرة على غزّة مخاطبا جيش الاحتلال: "نحن معكم بقلوبنا، لا نقبل أن تمتد الأيادي الملوثة بالإرهاب في غزة ضد الشعب الإسرائيلي، وإسرائيل لها الحق بالرد على الإرهابيين بجميع الوسائل التي تحمي شعبها.. فنحن وإياكم في خندق واحد"، وهذا الذي يوصف بالداعية السعودي أحمد بن سعيد القرني ويقال إنه عضو بمنظمة العفو الدولية دوَّن يقول: "دولة إسرائيل تقصف الإرهابيين بقطاع غزّة، اللهم سدد رميهم"! ومحمد آل الشيخ الذي يقول: "إن انفتاح السعودية على إسرائيل هو من أهم أسباب تدني معدلات الإرهاب"، ودحام العنزي بقوله: "نحن والإسرائيليون في خندق واحد، وهم أقرب إلينا من الأتراك والفرس"، وختامه صادمه مع أحمد الفراج الذي يكتب: "لك العتبى يا نتنياهو حتى ترضى".

هذه هي السعودية التي تعتقل مئات الفقهاء والدعاة والمثقفين، ومنهم من كان ذنبه ليس هو معارضة محمد بن سلمان ولكن عدم المجاهرة بمساندته، وتترك المجال مفتوحا لحرية التعبير عن الحقد على الفلسطينيين وعن حب إسرائيل التي تبصم على واحدة من أكبر قضايا الظلم التاريخي في العالم. هؤلاء الكتبة مرحب بهم في بلاد الحرمين وهؤلاء لم يتوجه إليهم المنتدى الفلسطيني لأنهم من المفروض أن القضية قضيتهم وأنهم يعرفونها، فإذا بهم ينساقون وراء صفقة القرن، وهي بيع فلسطين، بل غدرها ووضع اليد في يد نتنياهو بأوامر من دونالد ترامب، فما الجدوى من أن نذهب لتسويق القضية الفلسطينية في البرازيل أو السويد أو أوكرانيا إذا كانت العربية السعودية وسلطنة عمان ومصر وغيرها تتآمر عليها؟ إنها مفارقات يشيب لها الأطفال، ورغم ذلك كان هناك مئات الفلسطينيين من الوزير إلى الطالب إلى الإعلامي إلى الفنان يعملون بحماس من أجل أمل تحس أنه مشتعل في عيونهم. إنهم مازالوا ينتجون الأفلام الوثائقية والروايات الإنسانية ويكتبون في الميدان يومياتهم بمداد المعاناة، ومازال الناي الحزين ينتزع الدمعة من المآقي حين يجلجل الصوت الرخيم  بكلمات ليست كالكلمات المدنسة بالتطبيع، ولكن بكلمات الصمود، وكلمات المحاصرين والأسرى والأطفال والشهداء… كان الله في عون كل هؤلاء وهم ينشدون عن حق مع الشاعر: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نهاية أسبوع في إسطنبول نهاية أسبوع في إسطنبول



GMT 11:31 2019 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

كتب جديدة للقارئ في معرض الشارقة الدولي

GMT 11:26 2019 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

كتب أخرى للقارئ العربي

GMT 05:03 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

دسائس البلاط

GMT 05:01 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

اللبنانيون يأملون.. لكن بخوف وحذر!

GMT 05:00 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

ثورة في لبنان في عهد "حزب الله"

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة

GMT 13:52 2016 الأحد ,20 آذار/ مارس

كريم طبيعي مزيل لرائحة العرق

GMT 08:47 2016 الإثنين ,11 كانون الثاني / يناير

البامية للوقاية من الأمراض المستعصية والاكتئاب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca