عاريا.. كحقيقة

الدار البيضاء اليوم  -

عاريا كحقيقة

بقلم : حسن طارق

فيديو ناصر الزفزافي، جريمة لا يجب أن يطالها النسيان. ذلك أنها جريمة بعدد لا يحصى من الضحايا، وهي تركيب لمصفوفة كاملة من الفضاعات.

في تعميم الشريط، إصرار “باتولوجي” (مرضي) على إهانة الكرامة الجماعية للمغاربة، وعلى منحهم إحساسا حادا بالوضاعة والعدم والإذلال واللامعنى.

في رسالة الشريط، رغبة مقيتة في تحويلنا جميعا إلى مجرد أجساد على هامش الإنسانية، حيث الكرامة البشرية للفرد تصبح مسألة تقدير سياسي للسلطة، وهو ما يعني ببساطة نفي للكرامة، ذلك أن الكرامة بالتعريف هي موضوع غير قابل للتفاوض، وهي طبيعة إنسانية أصلية وليست مِنّةً من الدولة .

بسبب ذلك فالسجون وفضاءات الاحتجاز القانوني المختلفة، إذا كانت مؤسسات للحد من الحرية وفق الإجراءات الشرعية، فهي بالقطع ليست أمكنة للمس بالكرامة.

الكرامة التي ارتبطت – في الأديان والفلسفة، قبل القانون – بحرمة الجسد، حيث تجاورت في المدونات الحديثة للحقوق والكرامة البشرية بحرمة الذات الإنسانية، وأوكلت الاتفاقيات الحقوقية أمر حمايتهما للدولة باعتبارهما حدا أدنى للشرط الإنساني.

تصوير جسد المعتقل عاريا، وبثه عبر وسائط الاتصال، ليس مجرد تلصص مرضي على الخصوصية، بل هو استغلال بشع لهشاشة إنسانية، وإنزال لعقوبة لا تقرها أقسى القوانين الجنائية .

هو أكبر من جريمة تعذيب كان يمكن أن تجري في أقبية مغلقة يواجه فيها المعتقل أعزلا شراسة السلطة المتحررة من حكم القانون وأخلاق الدولة.

ذلك أن فعل التصوير وجريمة النشر، جعلتنا نصبح – نحن الذين نشاهد الفيديو – موضوعا مباشرا للعقاب الجماعي، وتلك كانت رسالته الأساسية: الشعور بالضآلة تحت رحمة تغول السلطة.

في “فرجة” مماثلة، ليس ثمة إمكانية للحياد، جميعنا نتحول إلى شركاء في الجريمة وفي العقاب، في الوقت ذاته.

في الصور المتلاحقة ببطء مخيف ومثير للغثيان، في فيديو العار، لا بد أن نتذكر فيديوهات الزفزافي المنشورة على “اللايف”، من صفحته على الفايسبوك، والمعاد بثها في عشرات المواقع والصفحات.

في الفيديو الأول يبدو الرجل شاردا، مستسلما، ضعيفا وصامتا. كل صفة من الصفات تلك تحيل على صورة أخرى ظلت تغذيها الفيديوهات السابقة: الشرود مقابل التأهب والاستعداد، الاستسلام مقابل النضالية، الضعف مقابل الحضور، الصمت مقابل الخطابة.

لذلك، فهذا الفيديو المقزز، هو في الواقع تجسيد لاستراتيجية المحو الرمزي، محو “صورة” ما باتت تسكن في المخيال الجمعي لأنصار الحراك ومحاولة – غير مضمونة النتيجة- لترسيخ صورة أخرى مناقضة، تحمل فكرة “الهزيمة”.

إنه، قبل ذلك، تمرين قاس في استباحة الدولة لحميمية الفرد وانتهاك خصوصياته، وتحويلهما إلى مادة للعبث والتنكيل والنشر والعمومية، وهو ما يحيل في العمق إلى إعادة العلاقة بين السلطة والفرد قرونا إلى الوراء، حيث العلاقة تحكمها رابطة التملك المادي، بشكل لا تصبح معها كلمة “الفرد” سوى بلاغة لا تحيل بتاتا على واقع التشيؤ وفقدان القدرة على إحساس الرعايا بتملك أجسادهم.

في الفيديو كان ناصر عاريا، عاريا كحقيقة موغلة في الجرح، عاريا كسلطة فقدت شرعيتها الأخلاقية.

كانت الفكرة الدنيئة، أن نستشعر جميعا عرينا الأليم في صور الفيديو الكريه، لكن الواقع أن السلطة وحدها من أصبحت عارية بهذا الفعل الشنيع الذي سيظل يطاردها طويلا.

ذلك أن العري قد يصيب السلطة نفسها، فتتحول الدولة العميقة المختبئة وراء بريق الواجهات إلى دولة مكشوفة أو تكاد، أو تدخل الدولة في منحدر التحول التدريجي إلى مجرد سلطة بدائية: كتلة من النفوذ الفاقدة للمعنى.

يحدث ذلك في التاريخ عندما تتخفف الدولة من خطابات المشروعية، وتسقط تباعا الكلمات والمفاهيم التي طالما منحتها ثقة المجتمع ورضاه، لتعود إلى حقيقتها الأولى بعيدا عن شرط الأخلاق وهيبة القانون وفضيلة السياسة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عاريا كحقيقة عاريا كحقيقة



GMT 08:07 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أخبار مهمة أمام القارئ

GMT 08:04 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الإمارات والأردن.. توافق لأمن المنطقة

GMT 08:01 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أسوأ عقاب أوروبى لأردوغان

GMT 07:59 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

لهذا تقود أمريكا العالم!

GMT 07:57 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

كسر الحلقة المقفلة في اليمن

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة

GMT 13:52 2016 الأحد ,20 آذار/ مارس

كريم طبيعي مزيل لرائحة العرق

GMT 08:47 2016 الإثنين ,11 كانون الثاني / يناير

البامية للوقاية من الأمراض المستعصية والاكتئاب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca