مثل «حلم ليلة صيف»!

الدار البيضاء اليوم  -

مثل «حلم ليلة صيف»

بقلم - جمال بودومة

اللهم كثّر أفراحنا. البارحة احتفلنا بعيد الشعر وغدا نخلد عيد المسرح، وبعد غد لا أعرف أي احتفال، وكما يقول الشاعر المائز: «دامت لكم الأفراح والمسرات!»

مثل كثير من المغرر بهم في أول العمر، عشقت القصيدة وأُغرمت بالخشبة، لكنني، لحسن الحظ، تركتهما في الوقت المناسب وتزوجت الصحافة. زواج مصلحة. ومازلت أعيش عالة على زوجتي منذ عشرين عاما! 

من حين لآخر يشدني الحنين لحبيبتي السابقة، أقصد الخشبة، خصوصا في اليوم العالمي للمسرح، الذي يذكرني بأيام الدراسة في «المعهد العالي للمسرح والتنشيط الثقافي»، حين كان  ستانسلافسكي وغروتوفسكي وموليير وشكسبير أفرادا من العائلة، وكان الجهل والادعاء صديقين حميمين.

شكسبير أعظم مسرحي في التاريخ ومريم أعظم ممثلة في المعهد، وعندما يلتقي العباقرة تحدث المعجزات. شكسبير شاعر عبقري، هكذا كان يردد الجميع، وكنا نردد نحن، أيضا، دون أن نفهم لماذا على وجه التحديد، خصوصا أننا لم نكن قد قرأنا شيئا للمسرحي الإليزابيتي، وأقصى ما كنا نعرف عنه أنه صاحب مقولة: أكون أو لا أكون هذه هي المسألة»، التي كنا نردد بمناسبة وبدون مناسبة، كي نبهر من يستمع إلينا ونقنعه بسعة اطلاعنا وانغراسنا العميق في تربة المسرح.

فيما بعد، درسنا «هاملت» و»ماكبث» و»عطيل» و»روميو وجولييت» و»الملك لير» و»حلم ليلة صيف»… ولم يعد المسرحي الإنجليزي غريبا عنا. تعرفنا على شخصياته المرسومة بدقة مدهشة، وحبكاته التي تقطع الأنفاس، وجمله الشعرية الثاقبة. لكن في تلك الأيام البعيدة، حين قرر أستاذ التشخيص أن نشتغل على «حلم ليلة صيف» كي نعرضها في اليوم العالمي للمسرح، كنا مجرد طلاب في السنة الأولى، ولم يكن بيننا وبين الأستاذ شكسبير إلا الخير.  قضينا أسابيع طويلة في التداريب. «حلم ليلة صيف» بالعربية الفصحى. الترجمة  عصية على القراءة، مثل معظم النصوص الصادرة عن سلسلة المسرح العالمي، التي تدر نقودا محترمة على مترجمين رديئين، ماعدا استثناءات قليلة. لكن السلسلة، رغم الركاكة، ساهمت في محو الأمية المسرحية بالعالم العربي.

في البداية، خصصنا حصصا لقراءة المسرحية على «الطريقة الإيطالية». أي جلسنا حول طاولة ووزعنا الحوارات بيننا وشرعنا في قراءتها. تهجينا النص جماعة وقطّعناه إلى فصول، ووزع الأستاذ- المخرج  الأدوار على الفصل بأكمله. لم أكن موهوبا في التمثيل، ومع ذلك وجدتني ألعب دورا مهما في المسرحية:  دوق أثينا الذي يستعد للزواج من هيبوليتا الجميلة، وأوبيرون ملك الجن مع عفاريته الخارقين للعادة.  بدأنا التداريب. يرفع الستار ويظهر الدوق على الخشبة ماسكا بيدي حبيبته هيبوليتا. هيبوليتا هي مريم، زميلة قذفت بها صدفة طائشة إلى المسرح، علاقتها مع  الخشبة مثل علاقة إدريس الخوري- أطال الله في عمره- مع الفيسبوك. أقول لها: «حبيبتي هيبوليتا إن ساعة زواجنا تقترب بسرعة»… أقبل يديها وجبينها، أمسك بيدها وأدور بها على الخشبة، من الـ»كوتي كور» إلى الـ»كوتي جاردان»، ومن الـ»كوتي جاردان» إلى الـ»كوتي كور». بدل أن تتجاوب معي وترد بالحوار المناسب، تحدق فيّ بدهشة وامتعاظ، وهي تحاول أن تتذكر النص، وينعقد لسانها ونضطر لإعادة المشهد…  أمضينا أياما متواصلة ونحن نعيد المشهد الأول. كانت التداريب تجري في قاعة عبدالصمد الكنفاوي بالمعهد العالي للفن المسرحي ثم في مقر الاتحاد المغربي للشغل، بمنطقة «ليزورانجي». كنا نتناوب مع المعطلين على القاعة، نتدرب فيها صباحا ويعتصمون فيها مساء. كنا نحس أننا أعدنا المسرح المغربي إلى جذوره، أيام المسرح العمالي، وعبدالصمد الكنفاوي الذي كان قياديا في النقابة العريقة، التي تحولت إلى بناية مسجلة باسم موخاريق…

«هيبوليتا الجميلة، إن ساعة زفافنا تقترب سريعا». العرض أيضا يقترب، والضغط يرتفع، و»الستريس» يزيد. لم تستطع مريم مسايرة إيقاع التداريب. لم تتمكن حتى من حفظ الحوارات، كي نتحدث عن الدخول في الدور. المشكلة أنها وصلت إلى هذه القاعة عن طريق الصدفة، لم تكن مقتنعة أصلا بالمشاركة في المسرحية، لكن الأستاذ قرر أن الجميع سيؤدي دورا في العرض، لأن الأمر يتعلق بدرس في التشخيص، سينقّطنا عليه في النهاية. مريم جاءت للمعهد كي تدرس «التنشيط الثقافي» وتحصل على الدبلوم ثم تشتغل في مكتب بوزارة الثقافة، ووجدت نفسها ترتدي قفطانا قديما وتضع تاجا وتتزوج دوقا غريب الأطوار. كان لها صوت جميل وتحب أن تغني وردة أو فايزة أحمد، هذه كل علاقتها مع الفن. تتصرف مثل فتاة أرستقراطية لا يمكن أن تسقط على الأرض أو توسخ ملابسها، فيما كنا نحن مثل أطفال شوارع جمعهم أحد المحسنين في قاعة وقال لهم عيثوا فسادا على الخشبة. كان الأستاذ ينتف شعره عقب كل مشهد. لكنه يضحك أحيانا. كان مؤمنا برسالته الفنية، سرعان ما يستعيد هدوءه ويعطينا ما يلزم من توجيهات وملاحظات وتصويبات، رغم أن الوقت نفذ والعرض بات على الأبواب. كان يحاول أن يعملنا، كما يقول، «حرفة التمثيل». مريم ظلت منكفئة على نفسها، لا تحقق أي تقدم في الدور.

لكي يفك عقدتها على الخشبة، عنت له فكرة جهنمية: بينما كنا نحاول تأدية المشهد المستحيل، طلب مني فجأة أن أخلع قميصي. خلعت القميص. طلب مني أن أخلع حذائي. خلعت الحذاء. طلب أن أخلع السروال… تعالت الضحكات وساد الترقب والتشويق. خلعت السروال. بقيت بـ»الكيلوت» وسط الخشبة، جنب الملكة مريم. قال لي المخرج: «أنت الآن في المسبح مع خطيبتك، اقترح عليها الزواج!» قلت لها: «حبيبتي هيبوليتا إن ساعة زواجنا تقترب سريعا»… صارت الأجواء خفيفة ومرحة. هيبوليتا غالبها الضحك، والزملاء يقهقهون. صارت الملكة تبتسم وتضحك وهي تتمنع وتنظر إليّ باندهاش وحبور. حدثت المعجزة وخرج الحوار من فمها بسلاسة. دخلت في الشخصية.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مثل «حلم ليلة صيف» مثل «حلم ليلة صيف»



GMT 11:31 2019 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

كتب جديدة للقارئ في معرض الشارقة الدولي

GMT 11:26 2019 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

كتب أخرى للقارئ العربي

GMT 05:03 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

دسائس البلاط

GMT 05:01 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

اللبنانيون يأملون.. لكن بخوف وحذر!

GMT 05:00 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

ثورة في لبنان في عهد "حزب الله"

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة

GMT 13:52 2016 الأحد ,20 آذار/ مارس

كريم طبيعي مزيل لرائحة العرق

GMT 08:47 2016 الإثنين ,11 كانون الثاني / يناير

البامية للوقاية من الأمراض المستعصية والاكتئاب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca