مصير الخائن

الدار البيضاء اليوم  -

مصير الخائن

بقلم - جمال بودومة

عندما تشتد الحرارة، ولا تستطيع أن تفرش “الفوطة” في أول شاطئ، حاول أن تفكر في الثلج، وستكتشف أن الطقس ينخفض في رأسك، وتخترق جسدك قشعريرة جميلة، كأنك في بدايات ديسمبر. ولكن أحيانا لا تحس بأي شيء، كي نكون نزيهين، لأن الشتاء شتاء، والصيف صيف، والوهم وهم. ولو كان “الطقس في الرأس”، لما تسابق الناس على المكيفات الهوائية في يونيو وحطب التدفئة في ديسمبر.

عندما تشتد الحرارة، نتصبب عرقا ونفكر جميعا في الماء، والبعض يشتاق إلى الثلج، هذا الصديق القديم، الذي قضينا معه لحظات لا تُنسى أيام الطفولة، نحن أبناء الأطلس البعيد. لم يكن يخلف موعده. خلال الشهور الأولى من الموسم، تصبح مدننا بيضاء، ومن أسطح المباني ترتفع المدخنات كأنها أكف الضراعة إلى السماء كي تكون رحيمة بالسكان البسطاء، الذين يموتون من البرد، أحيانا، دون أن تنتبه إليهم الدولة!

كانت المدرسة قرب البيت، والمعلم لا يتردد في تكليفنا بجلب الأعواد من احتياطي أسرنا الفقيرة، كي ندفئ الفصل. نأتي إلى القسم وفي يدنا اليمنى محفظة وفي اليسرى قطعة حطب، وفي الرأس أحلام مشتعلة. نفتح “قراءتي” ونتهجى دروسها الغبية: “كان لنا حمار، نربطه أمام الدار، باع أبي الحمار، لماذا باع أبي الحمار؟”… نشعل المدفأة وننتظر أن تكمل الشمس إشراقتها كي تدب الحياة في حجرة الدرس. “جدي جدي، جفل الجحش، هذا الجحش لا يعجبني، أريد دراجة”… بعد الاطمئنان على الحمير والجحوش النائمة في كراس “قراءتي”، نغادر الفصل إلى الساحة كي نستمتع بفترة “الاستراحة”. السماء زرقاء والشمس صفراء والأرض بيضاء، وكل شيء يغري بالتزحلق. نمضي الاستراحة في التزلج على الثلج الذي تحول إلى جليد، بأحذيتنا المثقوبة، التي يتسلل منها الصقيع، ونحول ساحة المدرسة إلى “پاتي نوار”.

ذات يوم، أدت حصة التزحلق إلى إتلاف كل شتائل الأرز، التي غرسنا بأيدينا قبل شهور بمناسبة “عيد الشجرة”. صنعنا مسلكا حقيقيا بين الشتائل، نتزحلق فيه تباعا، والبعض قلع غصنا أو اجتث شُجيرة بكاملها كي يصنع عصا تزلج، رغم أنها لا تصلح لأي شيء. عندما رن الجرس معلنا نهاية الاستراحة، كانت الأشجار الصغيرة قد أُبيدت عن بكرة أبيها. لم ننتبه للأمر إلا حين منعنا المعلمون من الالتحاق بحجرة الدرس، أوقفونا في صف طويل مثل إرهابيين صغار، في انتظار المدير. أخيرا جاء المسؤول عن المدرسة وبدأ يسأل بنبرة تهديدية: من شارك في اجتثاث الأشجار؟ صمتنا وارتعدنا ونحن نراه يلوح بعصا السفرجل التي تترك علامات حمراء على الأطراف. فجأة رفع إدريس أصبعه، وكان تلميذا كسولا ومشاغبا، وقال إنه مستعد لإعطاء أسماء من شاركوا في التزحلق خلال الاستراحة… أصبنا بالهلع والخيبة، ولعنّا “سنسفسل” جدود “الشكّام” في السر. وقف الخائن خارج الصف وبدأ يشير إلينا بسبابته واحدا واحدا. من سمع اسمه يغادر صف المتهمين إلى تجمع مخصص للمذنبين. عندما فرغ الحقير من وشايته، واجتمع حشد لا بأس به من المدانين، ساقنا المدير إلى مكتبه كي ننال العقاب الذي نستحق. وقبل أن نذهب إلى جلسة التعذيب، صحنا دفعة واحدة وبلا تنسيق مسبق: “إدريس أيضا كان معنا، إدريس كان معنا…”، هكذا دارت الدوائر على “البركاك”، وكان أول المعاقَبين. وفي الوقت الذي تمتعنا بظروف التخفيف، أكل الخائن ما يأكله الطبل يوم العيد!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مصير الخائن مصير الخائن



GMT 00:09 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الأوروبي ... أوهام ديغولية

GMT 04:42 2018 الثلاثاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

عن التيار المدني، بشقية المحافظ والعلماني

GMT 04:40 2018 الثلاثاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

اليمن بين الإنسانية والسياسة

GMT 11:28 2018 الإثنين ,29 تشرين الأول / أكتوبر

الأمن الإقليمى و«مصالح أهل المنطقة»

GMT 09:07 2018 الأحد ,21 تشرين الأول / أكتوبر

محاولة لفهم «ترامب»

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة

GMT 13:52 2016 الأحد ,20 آذار/ مارس

كريم طبيعي مزيل لرائحة العرق

GMT 08:47 2016 الإثنين ,11 كانون الثاني / يناير

البامية للوقاية من الأمراض المستعصية والاكتئاب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca